هكذا يتحايل الأردنيون على أوضاعهم بالنكتة والسخرية!
عمان جو - التصقت سمة "الكشرة" بالشعب الأردني طوال عقود طويلة ماضية، وظل الإنطباع السائد عن الأردنيين أنهم متجهمون، ولا تعرف النكتة أو الضحكة إلى قسمات وجوههم سبيلاً.
أصابع الاتهام كانت على الدوام توجه إلى "الحالة الاقتصادية" المتردية، أو إلى الموروث الاجتماعي، الذي يرى في العبوس "رجولة" و"هيبة" و"كاريزما" أردنية خالصة.
لكن الحال تبدلت وتغيرت في السنوات الماضية. إذ أظهر الأردنيون قدراً عالياً من السخرية والضحك والتهكم وارتفع منسوب الفكاهة لديهم كوسيلة للتحايل على أوضاعهم.
سخرية أردنية متنقلة
يمكن أي زائر للعاصمة الأردنية، عمّان، أن يلحظ بوضوح حجم السخرية التي يتحلى بها الأردنيون، وهي تتنقل مع مركباتهم التي تتزيّن بعبارات مضحكة ولافتة في آن واحد.
يحاول البعض إيصال رسالة ما من خلال هذه العبارات، أو التعبير عن موقف سياسي تجاه قضية معينة. لكن الغالبية تريد أن ترسم البسمة على وجوه الآخرين.
تتنوع هذه العبارات الساخرة ما بين التعبير عن السخط من غلاء الأسعار وتدني الرواتب وأزمات السير والوساطات والمحسوبية، ولا يخلو الأمر من بعض الحكم والأشعار.
بدورها، أسماء المحال التجارية لم تسلم من هذه السخرية الطاغية. ففي شارع الملكة رانيا الحيوي، على سبيل المثال، يبرز محلان تجاريان فضّلا إستخدام أسماء غريبة ولافتة وساخرة كمحل "السرطان للتدخين"، الذي يبيع كل ما يلزم المدخنين، وإلى جانبه محل صغير خاص بكل ما يتعلق بالهاتف النقال، إسمه "المزعج للموبايل".
احتجاجات شعبية ساخرة
الاحتجاجات الشعبية التي شهدها الأردن، أخيراً، وعرفت باحتجاجات "الدوار الرابع"، نسبة إلى مقر رئاسة الحكومة الأردنية، ومن قبلها الاحتجاجات التي أطاحت برئيس الوزراء السابق هاني الملقي، شهدت بدورها حضوراً للسخرية السياسية عبر رفع لافتات تهكمية لا حصر لها، تنتقد الأوضاع الاقتصادية وسياسة رفع الأسعار وزيادة الضرائب التي تنتهجها الحكومة، فضلاً عن الارتهان لصندوق النقد الدولي.
لغة الغالبية الصامتة
ترى الباحثة لارا العتوم أن السخرية في الأردن باتت لغة الغالبية الصامتة، التي تنتقد من خلالها التقصير الرسمي حيناً ومحاولة للهروب من الواقع حيناً آخر. لكنها تؤكد أن الأردن يعد في طليعة الدول العربية التي أفردت مساحة خاصة للكتابة الساخرة في الصحافة. إذ صدرت صحيفة "عبد ربه" الساخرة في منتصف التسعينيات قبل أن تُغلق لأسباب سياسية.
اليوم، في عصر التقنية والإنترنت، ثمة موقعان إلكترونيان ساخران، يحاول أحدهما، ويدعى "تنفيس" للكاتب الساخر كامل نصيرات، أن يوفر مساحة للتنفيس عن الأردنيين، في حين خرّج موقع "سواليف" للكاتب أحمد حسن الزعبي آلاف الساخرين الأردنيين على وسائل التواصل الاجتماعي، مثلما هو الحال مع وليد عليمات.
يطوع عليمات، الذي يتابع حسابه الشخصي على "فيسبوك" آلاف الأردنيين، كل حدث سياسي أو اقتصادي بأسلوب فكاهي ساخر. ويقول عليمات إن الكتابة الساخرة هي امتداد للنكتة السياسية، التي كانت معروفة تاريخياً في المجتمعات التي لا تسودها العدالة ويغلب عليها القمع السياسي. وكان الناس يلجأون إليها للتعبير عن معاناتهم أو لعجزهم عن انتقاد السلطة بشكل مباشر. فكانت النكتة تخرج كوسيلة للتعبير عن همومهم ومزجها بالابتسامة.
ويضيف أن "الكتابة الساخرة هي الوسيلة الوحيدة لاقتحام أسوار المحرمات الثلاثة، التي لا يمكنك التصريح عنها في بلادنا، وهي المحرمات في المجتمعات الشرقية (الدين والجنس والسياسة)، فغالبية الكتابات والنكات السياسية تدور في محور هذه المواضيع".
ويعتقد عليمات أن السخرية في الوقت الحالي صارت المهرب للكتّاب والناس بشكل عام لتجنب القوانين، لأن فيها من التلميح ما يمكن أن يوصل الفكرة على نحو بسيط ومفهوم، لكن في ظاهرها لا تحاسبك القوانين عليها، لأن النص القانوني جامد وله عناصر يجب أن تجتمع كي يُطبّق، في حين أن الكتابة الساخرة تجنبك هذه العناصر.
قانون الجرائم الإلكترونية في المرصاد
تحت مبررات فوضى "إغتيال الشخصيات" أقرت الحكومة الأردنية مشروع القانون المعدل لقانون الجرائم الإلكترونية، الذي يشكل تحدياً بارزاً لسخرية الأردنيين على مواقع التواصل الاجتماعي. إذ تحوي بعض بنوده، مثل تجريم "خطاب الكراهية"، تعريفات هلامية من شأنها الزج بأي أردني خلف القضبان، وفق المحامية والناشطة هالة عاهد، التي ترى أن الحكومة تناقض نفسها بإصدار ثلاثة قوانين لمراقبة وسائل التواصل الاجتماعي وتحجيمها.
تضيف عاهد أن ثمة تحركاً شعبياً لإلغاء المادة 11 من قانون الجرائم الإلكترونية، لأنها تسمح بتجريم حرية الرأي وتعتبر السخرية السياسية أحد أشكاله.
أدب شفوي والكشرة في طريقها للاندثار
يصف مثقفون أردنيون، من بينهم الدكتور يحيى بشتاوي، النكتة والسخرية بأنهما جزء من الأدب الشفوي لأي مجتمع، وضرورة للنقد السياسي حينما ينخفض سقف الحريات. وهما تنشطان، في رأيه، في حالات الضغط الاجتماعي.
ويرى بشتاوي أن السخرية خُدمت من قبل التكنولوجيا أكثر من سواها من أشكال التراث والأدب الشفويين.
ويؤكد الكاتب الساخر كامل نصيرات أن "الكشرة" الأردنية في طريقها إلى الاندثار. فـ"الكشرة" الموجودة الآن هي "كشرة" الغاضب والمقهور والمأزوم والملآن بالمتاعب والمشكلات. ويؤمن نصيرات أن المزاج السياسي في الأردن هو الأب الشرعي للنكتة، وأن الحاضنة هي أجواء الكبت وإنخفاض منسوب الحرية.
اندبندت
عمان جو - التصقت سمة "الكشرة" بالشعب الأردني طوال عقود طويلة ماضية، وظل الإنطباع السائد عن الأردنيين أنهم متجهمون، ولا تعرف النكتة أو الضحكة إلى قسمات وجوههم سبيلاً.
أصابع الاتهام كانت على الدوام توجه إلى "الحالة الاقتصادية" المتردية، أو إلى الموروث الاجتماعي، الذي يرى في العبوس "رجولة" و"هيبة" و"كاريزما" أردنية خالصة.
لكن الحال تبدلت وتغيرت في السنوات الماضية. إذ أظهر الأردنيون قدراً عالياً من السخرية والضحك والتهكم وارتفع منسوب الفكاهة لديهم كوسيلة للتحايل على أوضاعهم.
سخرية أردنية متنقلة
يمكن أي زائر للعاصمة الأردنية، عمّان، أن يلحظ بوضوح حجم السخرية التي يتحلى بها الأردنيون، وهي تتنقل مع مركباتهم التي تتزيّن بعبارات مضحكة ولافتة في آن واحد.
يحاول البعض إيصال رسالة ما من خلال هذه العبارات، أو التعبير عن موقف سياسي تجاه قضية معينة. لكن الغالبية تريد أن ترسم البسمة على وجوه الآخرين.
تتنوع هذه العبارات الساخرة ما بين التعبير عن السخط من غلاء الأسعار وتدني الرواتب وأزمات السير والوساطات والمحسوبية، ولا يخلو الأمر من بعض الحكم والأشعار.
بدورها، أسماء المحال التجارية لم تسلم من هذه السخرية الطاغية. ففي شارع الملكة رانيا الحيوي، على سبيل المثال، يبرز محلان تجاريان فضّلا إستخدام أسماء غريبة ولافتة وساخرة كمحل "السرطان للتدخين"، الذي يبيع كل ما يلزم المدخنين، وإلى جانبه محل صغير خاص بكل ما يتعلق بالهاتف النقال، إسمه "المزعج للموبايل".
احتجاجات شعبية ساخرة
الاحتجاجات الشعبية التي شهدها الأردن، أخيراً، وعرفت باحتجاجات "الدوار الرابع"، نسبة إلى مقر رئاسة الحكومة الأردنية، ومن قبلها الاحتجاجات التي أطاحت برئيس الوزراء السابق هاني الملقي، شهدت بدورها حضوراً للسخرية السياسية عبر رفع لافتات تهكمية لا حصر لها، تنتقد الأوضاع الاقتصادية وسياسة رفع الأسعار وزيادة الضرائب التي تنتهجها الحكومة، فضلاً عن الارتهان لصندوق النقد الدولي.
لغة الغالبية الصامتة
ترى الباحثة لارا العتوم أن السخرية في الأردن باتت لغة الغالبية الصامتة، التي تنتقد من خلالها التقصير الرسمي حيناً ومحاولة للهروب من الواقع حيناً آخر. لكنها تؤكد أن الأردن يعد في طليعة الدول العربية التي أفردت مساحة خاصة للكتابة الساخرة في الصحافة. إذ صدرت صحيفة "عبد ربه" الساخرة في منتصف التسعينيات قبل أن تُغلق لأسباب سياسية.
اليوم، في عصر التقنية والإنترنت، ثمة موقعان إلكترونيان ساخران، يحاول أحدهما، ويدعى "تنفيس" للكاتب الساخر كامل نصيرات، أن يوفر مساحة للتنفيس عن الأردنيين، في حين خرّج موقع "سواليف" للكاتب أحمد حسن الزعبي آلاف الساخرين الأردنيين على وسائل التواصل الاجتماعي، مثلما هو الحال مع وليد عليمات.
يطوع عليمات، الذي يتابع حسابه الشخصي على "فيسبوك" آلاف الأردنيين، كل حدث سياسي أو اقتصادي بأسلوب فكاهي ساخر. ويقول عليمات إن الكتابة الساخرة هي امتداد للنكتة السياسية، التي كانت معروفة تاريخياً في المجتمعات التي لا تسودها العدالة ويغلب عليها القمع السياسي. وكان الناس يلجأون إليها للتعبير عن معاناتهم أو لعجزهم عن انتقاد السلطة بشكل مباشر. فكانت النكتة تخرج كوسيلة للتعبير عن همومهم ومزجها بالابتسامة.
ويضيف أن "الكتابة الساخرة هي الوسيلة الوحيدة لاقتحام أسوار المحرمات الثلاثة، التي لا يمكنك التصريح عنها في بلادنا، وهي المحرمات في المجتمعات الشرقية (الدين والجنس والسياسة)، فغالبية الكتابات والنكات السياسية تدور في محور هذه المواضيع".
ويعتقد عليمات أن السخرية في الوقت الحالي صارت المهرب للكتّاب والناس بشكل عام لتجنب القوانين، لأن فيها من التلميح ما يمكن أن يوصل الفكرة على نحو بسيط ومفهوم، لكن في ظاهرها لا تحاسبك القوانين عليها، لأن النص القانوني جامد وله عناصر يجب أن تجتمع كي يُطبّق، في حين أن الكتابة الساخرة تجنبك هذه العناصر.
قانون الجرائم الإلكترونية في المرصاد
تحت مبررات فوضى "إغتيال الشخصيات" أقرت الحكومة الأردنية مشروع القانون المعدل لقانون الجرائم الإلكترونية، الذي يشكل تحدياً بارزاً لسخرية الأردنيين على مواقع التواصل الاجتماعي. إذ تحوي بعض بنوده، مثل تجريم "خطاب الكراهية"، تعريفات هلامية من شأنها الزج بأي أردني خلف القضبان، وفق المحامية والناشطة هالة عاهد، التي ترى أن الحكومة تناقض نفسها بإصدار ثلاثة قوانين لمراقبة وسائل التواصل الاجتماعي وتحجيمها.
تضيف عاهد أن ثمة تحركاً شعبياً لإلغاء المادة 11 من قانون الجرائم الإلكترونية، لأنها تسمح بتجريم حرية الرأي وتعتبر السخرية السياسية أحد أشكاله.
أدب شفوي والكشرة في طريقها للاندثار
يصف مثقفون أردنيون، من بينهم الدكتور يحيى بشتاوي، النكتة والسخرية بأنهما جزء من الأدب الشفوي لأي مجتمع، وضرورة للنقد السياسي حينما ينخفض سقف الحريات. وهما تنشطان، في رأيه، في حالات الضغط الاجتماعي.
ويرى بشتاوي أن السخرية خُدمت من قبل التكنولوجيا أكثر من سواها من أشكال التراث والأدب الشفويين.
ويؤكد الكاتب الساخر كامل نصيرات أن "الكشرة" الأردنية في طريقها إلى الاندثار. فـ"الكشرة" الموجودة الآن هي "كشرة" الغاضب والمقهور والمأزوم والملآن بالمتاعب والمشكلات. ويؤمن نصيرات أن المزاج السياسي في الأردن هو الأب الشرعي للنكتة، وأن الحاضنة هي أجواء الكبت وإنخفاض منسوب الحرية.
اندبندت