السواعير يكتب: الذئب والصحراء في وداع جهاد جبارة
عمان جو - إبراهيم السواعير
جئتكَ اليوم خالصاً مثلّ ذئبٍ
في صحارى
تركتُ فيها أنيني،
جئتك اليوم شاحباً وتراءتْ
في الخطى النائحات يطلبنَ حُرّاً
فارساً صاغ زحمة الخيل حتى،
أزهقته ذراع ذاك النؤوم الْ..!
لم يرَ السيفَ أو يرَ السيفُ فيهِ
ما يُلبّي اشتياقهُ للدماءِ!...
كان جهاد جبارة، رحمه الله، أكثرنا صُحبةً للصحراء، وأوفرنا محبّةً لـ"الذيب"؛ هذا الأسطورة صاحب النداء البعيد، والنشيج المثير، والمزاج الفائق، صديق الأعالي، وشريك المآسي، وصانع الملحمات؛ الكائن الذي تعاطف معه عرب البادية وهم يحسّون بما ينطوي عليه من مرارة وقهر، حتّى أنّهم قالوا (خلّك ذيب!)؛ إذ يكفي أنّه فُرضت عليه دمويّته وبكاؤه المحزن الموحش، فلا تملك إلا أن تحترم ما يتوافر عليه من آلام.
عام 2005 صادفتُ في مكتب أحد المدراء في الجريدة كاتباً يقطر الدّم من وجهه، وهو يرتفع صوته وينخفض، ويتطاير من فمه الغضب، فيما يداه مشغولتان بالتأشير على صورٍ التقطها للتوّ؛ يسأل أيّان تنشر موادّه، ويناجز على (مزاج) المساحة المعطاة، بل ويرسم في ذهنه صفحةً أو صفحتين لشروحات صور التقطها للتوّ، من كهوفٍ بعيدة وجحور ضباع ونقوش قومٍ أوغلوا في الرحيل، وبقايا غزلان، وشجرٍ تكوّنت أوصاله من غبار.
لم أملك إلا أن اندمجتُ في الحديث، ورحت أروي أشعاراً قيلت في "وادي راجل" و"سلاحيب"،.. وفي بادية المفرق، وفي الأزرق، وفي الحرّة، والرويشد، والصفاوي، والجفر، وباير،.....، ليهدأ الرجل، فنرتبط طيلة السنوات التالية برباطٍ لا ينقطع، رباطٍ صُنِعَ من صحراء؛ فكلانا له قلب ذئب، وفي اجتماعنا مع الذّات لا يمكن لأحدٍ منّا إلا أن (يجوح)!
كان جهاد جبارة يتوغّل في السفرة أو السفرتين في باديةٍ لا انتهاء لها، فنفقده في أروقة الجريدة ومجالس الأدباء والصحفيين والكتّاب شهراً أو شهرين أو ثلاثة؛ لنتندّر أو نتكهّن بأنّ أفعى قبّلتْهُ فنام قرب "سلع" وهو يبحث عن وضوحٍ لنقش، أو أنّ ذئباً لم يعد يطيق صبراً على ذئبٍ يقاسمه الصحراء فنهش الذّئبُ الذئبَ في حضورٍ من الظلام في ليلةٍ حامية الوطيس، أو أنّه اختنق وهو يجرّ ضبعاً مكتمل الفكّين من جحرٍ عميق،.. كانت تلك أحاديثنا التي لم تقطعها إلا طلّة جهاد جبارة وهو يدخل الجريدة كالفارس الذي يحمل وجهه وانفعالاته وكامل هيئته تفاصيل المعركة،..كان طازجاً مثل حديثٍ شهيٍّ على الاستعادة،..طبيعيّاً يملأ جيوبه بغبارٍ وبعض لُقى وعملات قديمة جرّته إليها السيول،..فرِحاً بنا وبمشروعه الصحراويّ الذي يُحبّ أن نتلقّاه قبل أن يُقبّل باب بيته بعد سفرةٍ طويلة!.. ما هي إلا لحظات حتّى تجتمع الجريدة في مكتب، الحلقة فيه تصبح حلقات، والجميع منتبهٌ ومتحفّزٌ يضرب كفّاً بكف، ويشارك صاحب الرحلة في كيفية ترتيب غنائمه في تقارير وقصص تحملها الصحيفة التي كانت في ما مضى تحمل الصحراء وأبناء الصحراء وتحتفي بأصحاب الرحلات!
كانت صفحاتُ جهاد جبارة في ما يكتب، بعد طول مفاوضةٍ مع مدراء التحرير، ذات بُعدٍ جماليٍّ وأسلوبٍ أدبيٍّ مشهدي وفوائد علميّة وتاريخيّة، وكان من الطبيعي لمن شرب الرمال وشاب رأسه من مفاجآت الكهوف ووقف قلبه على صوت بومةٍ أو نعيق غراب، أن يترك قلمه يكتب، فيما هو يرتاح مطمئنّاً إلى ما يفاجئ به، أو تتسابق إليه الأنظار.
وإذا كان مفلح العدوان في "بوح القرى" قد جاب الناس الطيبين وأخذ عنهم وتسلّح بمرجعيّات التاريخ وأحزان الأنبياء، وإذا كان تيسير السبول قد قرر أنه بدويٌّ خطّت الصحراء لا جدوى خطاه، وإذا كانت روان العدوان قد أعادت إنتاج نقوش الصفويين في أعمال تشكيلية عالميّة، وإذا كان الدكتور نزار حداد قد تتبّع الشجر وقرأ تفاصيله وأساطيره؛.. فإنّ جهاد جبارة قد سكن إلى الصحراء، ولو فتّشنا بعد مرضته الأخيرة التي عاقته عن مراوغة الرمال لوجدنا ربّما وصيّةً بأن يدفن في هاتيك البادية فيصبح قبره نقشاً تسفوه الرياح عسى أن يأتي من بعده من يقرأ صاحب هذه النقوش.
أنضج جهاد جبارة على جمر الغضا في البادية الشماليّة، مصطلياً بإبريقٍ فاحمٍ أكلتْه النار، سِفْراً عجيباً أسماه "صهيل الصحراء"، بثّه كلّ ما رآه، ووعاه، وقاساه، ووقف عليه، وكانت صوره الفوتوغرافيّة تزاحم جمالياتها صوره العذبة والحزينة من بليغ القول والوصف وما يقطفه من شجرة معمّرة تحاول أن تطاولها حشائش غضّة لا تقوى على الاستمرار، شجرة أشبه ما تكون بحال جهاد جبارة وحال أصدقائه، الذين يصدق عليهم قول الجواهري سيّد الشعراء يوم انتصف لنفسه فقال: "علقَتْ زواحفها بمجدك مثلما.. طمع العليق بدوحةٍ علياء"!
كان جهاد جبارة مثقّفاً ومغرماً بالأساطير والخيال الذي يجعله يتهوّم في الربط بين الظواهر مستحضراً سنابك الخيل ودفائن الحضارات، وهو لا يأتي بتقرير جاف تعافه النفوس، بل يصنع له روحاً ويمدّه بدفقاته وخوفه وغربته وقلقه الإنسانيّ، ملتقطاً أدقّ التفاصيل، ومن ذلك ما حدثني به عن دبيب (جندبة) أو تلويح عقرب بلسعات، أو مشية نملة صابرة، أو زهو فراشة ربيعيّة تطير نحو الموت؛ تماماً مثل قلبه الأخضر الذي زرعه في صحراء الشمال والجنوب والوديان، في مشواره الذي قطعه المرض، وقضى عليه الموت.
قديماً كان الشاعر حين يرى السماء الواسعة والصحراء الممتدّة والقمر المطل، وحين يعود من رحلة الصيد ويسكن إلى امرأة، وحين كان يتهيّب "سهيل" ويعدّ النجوم،.. يصنع من نفسه شاعراً، ومثل أجداده الشعراء الفرسان النبلاء كان جهاد جبارة ينثر خواطره وينقش على الصور نفسه، مسابقاً عدسته في العناية بالجمال واختطاف اللطائف واللقطات الحلوة من الضياع.
الحديث يطول؛ فيا أيّها الرجل، الحصان،
أما وقد أنجبت الصحراء الصاهلة كثيراً من الخيول، فلك أن تطمئنّ، فحتى وإن كانت "الحمحمات" قد بردت كثيراً، إلا أنّ لها يوماً قريباً جداً سوف تملأ فيه المكان.
جئتكَ اليوم خالصاً مثلّ ذئبٍ
في صحارى
تركتُ فيها أنيني،
جئتك اليوم شاحباً وتراءتْ
في الخطى النائحات يطلبنَ حُرّاً
فارساً صاغ زحمة الخيل حتى،
أزهقته ذراع ذاك النؤوم الْ..!
لم يرَ السيفَ أو يرَ السيفُ فيهِ
ما يُلبّي اشتياقهُ للدماءِ!...
كان جهاد جبارة، رحمه الله، أكثرنا صُحبةً للصحراء، وأوفرنا محبّةً لـ"الذيب"؛ هذا الأسطورة صاحب النداء البعيد، والنشيج المثير، والمزاج الفائق، صديق الأعالي، وشريك المآسي، وصانع الملحمات؛ الكائن الذي تعاطف معه عرب البادية وهم يحسّون بما ينطوي عليه من مرارة وقهر، حتّى أنّهم قالوا (خلّك ذيب!)؛ إذ يكفي أنّه فُرضت عليه دمويّته وبكاؤه المحزن الموحش، فلا تملك إلا أن تحترم ما يتوافر عليه من آلام.
عام 2005 صادفتُ في مكتب أحد المدراء في الجريدة كاتباً يقطر الدّم من وجهه، وهو يرتفع صوته وينخفض، ويتطاير من فمه الغضب، فيما يداه مشغولتان بالتأشير على صورٍ التقطها للتوّ؛ يسأل أيّان تنشر موادّه، ويناجز على (مزاج) المساحة المعطاة، بل ويرسم في ذهنه صفحةً أو صفحتين لشروحات صور التقطها للتوّ، من كهوفٍ بعيدة وجحور ضباع ونقوش قومٍ أوغلوا في الرحيل، وبقايا غزلان، وشجرٍ تكوّنت أوصاله من غبار.
لم أملك إلا أن اندمجتُ في الحديث، ورحت أروي أشعاراً قيلت في "وادي راجل" و"سلاحيب"،.. وفي بادية المفرق، وفي الأزرق، وفي الحرّة، والرويشد، والصفاوي، والجفر، وباير،.....، ليهدأ الرجل، فنرتبط طيلة السنوات التالية برباطٍ لا ينقطع، رباطٍ صُنِعَ من صحراء؛ فكلانا له قلب ذئب، وفي اجتماعنا مع الذّات لا يمكن لأحدٍ منّا إلا أن (يجوح)!
كان جهاد جبارة يتوغّل في السفرة أو السفرتين في باديةٍ لا انتهاء لها، فنفقده في أروقة الجريدة ومجالس الأدباء والصحفيين والكتّاب شهراً أو شهرين أو ثلاثة؛ لنتندّر أو نتكهّن بأنّ أفعى قبّلتْهُ فنام قرب "سلع" وهو يبحث عن وضوحٍ لنقش، أو أنّ ذئباً لم يعد يطيق صبراً على ذئبٍ يقاسمه الصحراء فنهش الذّئبُ الذئبَ في حضورٍ من الظلام في ليلةٍ حامية الوطيس، أو أنّه اختنق وهو يجرّ ضبعاً مكتمل الفكّين من جحرٍ عميق،.. كانت تلك أحاديثنا التي لم تقطعها إلا طلّة جهاد جبارة وهو يدخل الجريدة كالفارس الذي يحمل وجهه وانفعالاته وكامل هيئته تفاصيل المعركة،..كان طازجاً مثل حديثٍ شهيٍّ على الاستعادة،..طبيعيّاً يملأ جيوبه بغبارٍ وبعض لُقى وعملات قديمة جرّته إليها السيول،..فرِحاً بنا وبمشروعه الصحراويّ الذي يُحبّ أن نتلقّاه قبل أن يُقبّل باب بيته بعد سفرةٍ طويلة!.. ما هي إلا لحظات حتّى تجتمع الجريدة في مكتب، الحلقة فيه تصبح حلقات، والجميع منتبهٌ ومتحفّزٌ يضرب كفّاً بكف، ويشارك صاحب الرحلة في كيفية ترتيب غنائمه في تقارير وقصص تحملها الصحيفة التي كانت في ما مضى تحمل الصحراء وأبناء الصحراء وتحتفي بأصحاب الرحلات!
كانت صفحاتُ جهاد جبارة في ما يكتب، بعد طول مفاوضةٍ مع مدراء التحرير، ذات بُعدٍ جماليٍّ وأسلوبٍ أدبيٍّ مشهدي وفوائد علميّة وتاريخيّة، وكان من الطبيعي لمن شرب الرمال وشاب رأسه من مفاجآت الكهوف ووقف قلبه على صوت بومةٍ أو نعيق غراب، أن يترك قلمه يكتب، فيما هو يرتاح مطمئنّاً إلى ما يفاجئ به، أو تتسابق إليه الأنظار.
وإذا كان مفلح العدوان في "بوح القرى" قد جاب الناس الطيبين وأخذ عنهم وتسلّح بمرجعيّات التاريخ وأحزان الأنبياء، وإذا كان تيسير السبول قد قرر أنه بدويٌّ خطّت الصحراء لا جدوى خطاه، وإذا كانت روان العدوان قد أعادت إنتاج نقوش الصفويين في أعمال تشكيلية عالميّة، وإذا كان الدكتور نزار حداد قد تتبّع الشجر وقرأ تفاصيله وأساطيره؛.. فإنّ جهاد جبارة قد سكن إلى الصحراء، ولو فتّشنا بعد مرضته الأخيرة التي عاقته عن مراوغة الرمال لوجدنا ربّما وصيّةً بأن يدفن في هاتيك البادية فيصبح قبره نقشاً تسفوه الرياح عسى أن يأتي من بعده من يقرأ صاحب هذه النقوش.
أنضج جهاد جبارة على جمر الغضا في البادية الشماليّة، مصطلياً بإبريقٍ فاحمٍ أكلتْه النار، سِفْراً عجيباً أسماه "صهيل الصحراء"، بثّه كلّ ما رآه، ووعاه، وقاساه، ووقف عليه، وكانت صوره الفوتوغرافيّة تزاحم جمالياتها صوره العذبة والحزينة من بليغ القول والوصف وما يقطفه من شجرة معمّرة تحاول أن تطاولها حشائش غضّة لا تقوى على الاستمرار، شجرة أشبه ما تكون بحال جهاد جبارة وحال أصدقائه، الذين يصدق عليهم قول الجواهري سيّد الشعراء يوم انتصف لنفسه فقال: "علقَتْ زواحفها بمجدك مثلما.. طمع العليق بدوحةٍ علياء"!
كان جهاد جبارة مثقّفاً ومغرماً بالأساطير والخيال الذي يجعله يتهوّم في الربط بين الظواهر مستحضراً سنابك الخيل ودفائن الحضارات، وهو لا يأتي بتقرير جاف تعافه النفوس، بل يصنع له روحاً ويمدّه بدفقاته وخوفه وغربته وقلقه الإنسانيّ، ملتقطاً أدقّ التفاصيل، ومن ذلك ما حدثني به عن دبيب (جندبة) أو تلويح عقرب بلسعات، أو مشية نملة صابرة، أو زهو فراشة ربيعيّة تطير نحو الموت؛ تماماً مثل قلبه الأخضر الذي زرعه في صحراء الشمال والجنوب والوديان، في مشواره الذي قطعه المرض، وقضى عليه الموت.
قديماً كان الشاعر حين يرى السماء الواسعة والصحراء الممتدّة والقمر المطل، وحين يعود من رحلة الصيد ويسكن إلى امرأة، وحين كان يتهيّب "سهيل" ويعدّ النجوم،.. يصنع من نفسه شاعراً، ومثل أجداده الشعراء الفرسان النبلاء كان جهاد جبارة ينثر خواطره وينقش على الصور نفسه، مسابقاً عدسته في العناية بالجمال واختطاف اللطائف واللقطات الحلوة من الضياع.
الحديث يطول؛ فيا أيّها الرجل، الحصان،
أما وقد أنجبت الصحراء الصاهلة كثيراً من الخيول، فلك أن تطمئنّ، فحتى وإن كانت "الحمحمات" قد بردت كثيراً، إلا أنّ لها يوماً قريباً جداً سوف تملأ فيه المكان.
تعليقات القراء
لا يوجد تعليقات