الأزمة في موارد الاتصال عالمياً
عمان جو- د. تيسير المشارقة
(باحث في الدراسات الثقافية والاتصال)
نحن بحاجة إلى مرتكزات ثقافية جديدة للتفكير الإنساني لحل المشكلات على مستوى الاتصال الكوني الرقمي. والحتمية التكنولوجية تتجسد اليوم بعد قراءة واقع الحال بالنسبة للتعليم الالكتروني والتعامل مع التطبيقات والتكنولوجيات المتعددة المتعلقة بالإنترنت لإنجاز المهمة. أذكر مثلاً دراسة شون ماكبرايد حول مشكلات الاتصال في العالم وهي دراسة عالمية قامت بها اليونسكو، وتزعّم فريق البحث شون الإيرلندي وكان من فريق البحث عالم الاتصال الكندي مارشال ماكلوهان وكان في نهاية عمره ومصطفى المصمودي من تونس. ماكلوهان لم يتسن له الاطلاع على التقرير العالمي بعنوان ((أصوات متعددة في عالم واحد)) فقد توفي بعد صدور التقرير. وماكلوهان اعتبر المنظر الأكبر للوسيلة في العملية الاتصالية. وهو كاتب الكتاب الأشهر: ((كيف نفهم وسائل الاتصال؟)) وله عدة نظريات تتعلق بهذا الضلع من العملية الاتصالية (ألا وهو الوسيلة). الوسيلة الرقمية المرتبكة الآن بحاجة لإعادة دراسة من قبل اليونسكو مجددا بعد مرور 40 عاماً على تقرير مكابرايد عام 1980.
السياق التاريخي لمشكلات الاتصال في العالم واليونسكو:
أواسط القرن العشرين، وفي الربع الثالث منه، ظهرت أصوات متعددة في "دول عدم الانحياز" تطالب بإغلاق أو سد الفجوة المعرفية الناتجة عن التفاوت في امتلاك الموارد الاتصالية والإعلامية بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب. وانتبهت المنظمة الأممية (اليونسكو) في ذلك الوقت إلى هذا التفاوت بين دول "المركز" و"الأطراف". وظهر أن العديد من دول العالم الثالث ومنها الدول العربية والدول النامية ودول عدم الانحياز تعاني من فقر شديد في الموارد الاتصالية ووسائل الإعلام.
اليونسكو وقفت ضد التدفق الحر للمعلومات والأخبار:
هذا الأمر دفع اليونسكو لتشكيل لجنة علمية من خبراء الاتصال في العالم لدراسة مشكلات الاتصال على مستوى الكون. وترأس اللجنة في حينة الإيرلندي شون ماك برايد. وكان في حينه يترأس لجنة يونسكو للحفاظ على التراث الفلسطيني. وانضم إلى اللجنة الدولية كل من: مارشال ماكلوهان، ووزير الإعلام التونسي الأسبق مصطفى المصمودي (صاحب كتاب: النظام الإعلامي الجديد 1976). بالطبع أثارت هذه اللجنة حفيظة الولايات المتحدة ودول المركز الأوروبي(بريطانيا) التي كانت تناصر التدفق الحر للمعلومات وناصرت الهيمنة (الإمبريالية الإعلامية) التي تغوّلت باسم رأسماليات الإعلام والاتصال وإمبراطوريات الإعلام والاتصال.
طلبت اليونسكو من اللجنة المذكورة دراسة مشكلات الاتصال على المستوى الكوني والخروج بمستخلصات وتوصيات. وفعلاً، لما صدر التقرير الأولي عام 1980 ورد فيه ما يقارب الـ80 توصية التي دعت إلى توزيع الثروة في الموارد الاتصالية بالعدل والمساواة لكي يحدث التفاعل الكوني على مستوى أفضل. في ذلك الوقت ظهر(في التقرير) أن 10% من المجتمعات تمتلك 90% من موارد الاتصال، بينما 90% من الشعوب والمجتمعات تمتلك ما يقارب من 10% من هذه الموارد. وبالتالي لا توزيع عادل للثروة الاتصالية الدولية.
أصوات متعددة في عالم واحد:
تقرير اليونسكو في عام 1980 (تقرير شون ماكبرايد) الذي تمت عنونته بعنوان: أصوات متعددة في عالم واحد، اشتمل على توصية مهمة أخرى وهي أن تقوم اليونسكو بدراسة مشكلات الاتصال مجدداً بعد عشرين سنة (أي عام 2000). لكن هذا الأمر لم يحدث. والسبب أنه بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1990 ومجيء كلينتون وآل غور.. وظهور ما يسمى بـ (العولمة الاتصالية) و(النظام العالمي الجديد) بقيادة أميركا، وظهور الانترنت (النظام الاشتراكي الجديد الذي ساوى بين كل الناس) وطروحات آل غور في حينه (بإنشاء بنية تحتية كونية للمعلومات) وهو ما أطلق عليه نائب الرئيس مصطلح " أوتوستراد المعلومات السريع"(انفورميشن سوبرهايوي) وهو "الإنترنت" لاحقاً.. اختلطت الأمور وزادت حدة الهيمنة والتبعية والاستحواذ على موارد الاتصال.
الاتصال الكوني على مفترق طرق:
هذا التحوّل التاريخي مطلع التسعينات وسيادة القطب الواحد أدى إلى إلغاء فكرة دراسة مشكلات الاتصال مجدداً عام 2000، فالأزمان تغيّرت والظروف اختلفت وأميركا صارت هي التي تقود الكون وتحدد معايير الاتصال الكوني، وابقت على الفجوة التكنولوجية والمعرفية والسيادة الاتصالية لدول المركز. أما الأطراف والدول النامية ودول عدم الانحياز فذهبت أفكارها وتمنياتها وأحلامها أدراج الرياح.
أميركا عاقبت اليونسكو:
بقي أن نشير أن أميركا أوقفت الدعم المالي لليونسكو (حصة أميركا كانت تقترب من 25%) بعد صدر تقرير 1980 وتوصياته. فالهيمنة الإمبريالية على الاتصال عادت لأميركا في تسعينات القرن الماضي. وصار الإعلام والاتصال على مفترق طرق وبدأت الألفية الثالثة بعولمة اتصالية طاحنة. وتراجعت اليونسكو عن فكرة تشكيل لجنة جديدة لدراسة مشكلات الاتصال عام 2000. بقي حال الاتصال الكوني في حالة مزرية وازداد الفقراء لأدوات الاتصال فقراً.
ختاماً،
نحن من هنا، في العالم العربي، وفي مؤسسات التعليم والإعلام والاتصال، وبعد أزمة كورونا الطاحنة للعلم والتعليم،
نُطالب اليونسكو ودول عدم الانحياز بتجديد طلب دراسة مشكلات الاتصال على المستوى الكوني (عام 2020) الحالي الذي أظهرت المتابعات لما حدث أثناء جائحة فيروس كورونا، والتقديرات الأولية، أن العديد من الدول العالمثالثية "سقطت في التجربة" على مستوى التعليم الإلكتروني و"التعليم عن بعد" بسبب ضعف وفقر في موارد الاتصال. ونستثني منها بعض الدول كالأردن وفلسطين والتي أظهرت النتائج فيها، أن هناك عملية "تكيّف" و"تفاعل مع التطبيقات والموارد والأجهزة" والتطبيقات، بالتوليف ما بين المتوفر من معدّات وأجهزة.
هل تعلق دول عدم الانحياز الآن الجرس، وهل تتحمل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة والاتصال (اليونسكو) مسؤوليتها الطارئة مجدداً. بالدعوة لمنظور جديد لفهم واقع موارد الاتصال وحال الاتصال على المستوى الدولي بعد مرور 40 سنة على تقرير شون ماكبرايد (1980). فجائحة كورونا كشفت الغطاء وبان المستور، والفقر في موارد الاتصال عام وخطير.
عمان / الأردن ـ 1/06/2020
*د. تيسير المشارقة ـ باحث في الدراسات الثقافية والاتصال
عمان جو- د. تيسير المشارقة
(باحث في الدراسات الثقافية والاتصال)
نحن بحاجة إلى مرتكزات ثقافية جديدة للتفكير الإنساني لحل المشكلات على مستوى الاتصال الكوني الرقمي. والحتمية التكنولوجية تتجسد اليوم بعد قراءة واقع الحال بالنسبة للتعليم الالكتروني والتعامل مع التطبيقات والتكنولوجيات المتعددة المتعلقة بالإنترنت لإنجاز المهمة. أذكر مثلاً دراسة شون ماكبرايد حول مشكلات الاتصال في العالم وهي دراسة عالمية قامت بها اليونسكو، وتزعّم فريق البحث شون الإيرلندي وكان من فريق البحث عالم الاتصال الكندي مارشال ماكلوهان وكان في نهاية عمره ومصطفى المصمودي من تونس. ماكلوهان لم يتسن له الاطلاع على التقرير العالمي بعنوان ((أصوات متعددة في عالم واحد)) فقد توفي بعد صدور التقرير. وماكلوهان اعتبر المنظر الأكبر للوسيلة في العملية الاتصالية. وهو كاتب الكتاب الأشهر: ((كيف نفهم وسائل الاتصال؟)) وله عدة نظريات تتعلق بهذا الضلع من العملية الاتصالية (ألا وهو الوسيلة). الوسيلة الرقمية المرتبكة الآن بحاجة لإعادة دراسة من قبل اليونسكو مجددا بعد مرور 40 عاماً على تقرير مكابرايد عام 1980.
السياق التاريخي لمشكلات الاتصال في العالم واليونسكو:
أواسط القرن العشرين، وفي الربع الثالث منه، ظهرت أصوات متعددة في "دول عدم الانحياز" تطالب بإغلاق أو سد الفجوة المعرفية الناتجة عن التفاوت في امتلاك الموارد الاتصالية والإعلامية بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب. وانتبهت المنظمة الأممية (اليونسكو) في ذلك الوقت إلى هذا التفاوت بين دول "المركز" و"الأطراف". وظهر أن العديد من دول العالم الثالث ومنها الدول العربية والدول النامية ودول عدم الانحياز تعاني من فقر شديد في الموارد الاتصالية ووسائل الإعلام.
اليونسكو وقفت ضد التدفق الحر للمعلومات والأخبار:
هذا الأمر دفع اليونسكو لتشكيل لجنة علمية من خبراء الاتصال في العالم لدراسة مشكلات الاتصال على مستوى الكون. وترأس اللجنة في حينة الإيرلندي شون ماك برايد. وكان في حينه يترأس لجنة يونسكو للحفاظ على التراث الفلسطيني. وانضم إلى اللجنة الدولية كل من: مارشال ماكلوهان، ووزير الإعلام التونسي الأسبق مصطفى المصمودي (صاحب كتاب: النظام الإعلامي الجديد 1976). بالطبع أثارت هذه اللجنة حفيظة الولايات المتحدة ودول المركز الأوروبي(بريطانيا) التي كانت تناصر التدفق الحر للمعلومات وناصرت الهيمنة (الإمبريالية الإعلامية) التي تغوّلت باسم رأسماليات الإعلام والاتصال وإمبراطوريات الإعلام والاتصال.
طلبت اليونسكو من اللجنة المذكورة دراسة مشكلات الاتصال على المستوى الكوني والخروج بمستخلصات وتوصيات. وفعلاً، لما صدر التقرير الأولي عام 1980 ورد فيه ما يقارب الـ80 توصية التي دعت إلى توزيع الثروة في الموارد الاتصالية بالعدل والمساواة لكي يحدث التفاعل الكوني على مستوى أفضل. في ذلك الوقت ظهر(في التقرير) أن 10% من المجتمعات تمتلك 90% من موارد الاتصال، بينما 90% من الشعوب والمجتمعات تمتلك ما يقارب من 10% من هذه الموارد. وبالتالي لا توزيع عادل للثروة الاتصالية الدولية.
أصوات متعددة في عالم واحد:
تقرير اليونسكو في عام 1980 (تقرير شون ماكبرايد) الذي تمت عنونته بعنوان: أصوات متعددة في عالم واحد، اشتمل على توصية مهمة أخرى وهي أن تقوم اليونسكو بدراسة مشكلات الاتصال مجدداً بعد عشرين سنة (أي عام 2000). لكن هذا الأمر لم يحدث. والسبب أنه بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1990 ومجيء كلينتون وآل غور.. وظهور ما يسمى بـ (العولمة الاتصالية) و(النظام العالمي الجديد) بقيادة أميركا، وظهور الانترنت (النظام الاشتراكي الجديد الذي ساوى بين كل الناس) وطروحات آل غور في حينه (بإنشاء بنية تحتية كونية للمعلومات) وهو ما أطلق عليه نائب الرئيس مصطلح " أوتوستراد المعلومات السريع"(انفورميشن سوبرهايوي) وهو "الإنترنت" لاحقاً.. اختلطت الأمور وزادت حدة الهيمنة والتبعية والاستحواذ على موارد الاتصال.
الاتصال الكوني على مفترق طرق:
هذا التحوّل التاريخي مطلع التسعينات وسيادة القطب الواحد أدى إلى إلغاء فكرة دراسة مشكلات الاتصال مجدداً عام 2000، فالأزمان تغيّرت والظروف اختلفت وأميركا صارت هي التي تقود الكون وتحدد معايير الاتصال الكوني، وابقت على الفجوة التكنولوجية والمعرفية والسيادة الاتصالية لدول المركز. أما الأطراف والدول النامية ودول عدم الانحياز فذهبت أفكارها وتمنياتها وأحلامها أدراج الرياح.
أميركا عاقبت اليونسكو:
بقي أن نشير أن أميركا أوقفت الدعم المالي لليونسكو (حصة أميركا كانت تقترب من 25%) بعد صدر تقرير 1980 وتوصياته. فالهيمنة الإمبريالية على الاتصال عادت لأميركا في تسعينات القرن الماضي. وصار الإعلام والاتصال على مفترق طرق وبدأت الألفية الثالثة بعولمة اتصالية طاحنة. وتراجعت اليونسكو عن فكرة تشكيل لجنة جديدة لدراسة مشكلات الاتصال عام 2000. بقي حال الاتصال الكوني في حالة مزرية وازداد الفقراء لأدوات الاتصال فقراً.
ختاماً،
نحن من هنا، في العالم العربي، وفي مؤسسات التعليم والإعلام والاتصال، وبعد أزمة كورونا الطاحنة للعلم والتعليم،
نُطالب اليونسكو ودول عدم الانحياز بتجديد طلب دراسة مشكلات الاتصال على المستوى الكوني (عام 2020) الحالي الذي أظهرت المتابعات لما حدث أثناء جائحة فيروس كورونا، والتقديرات الأولية، أن العديد من الدول العالمثالثية "سقطت في التجربة" على مستوى التعليم الإلكتروني و"التعليم عن بعد" بسبب ضعف وفقر في موارد الاتصال. ونستثني منها بعض الدول كالأردن وفلسطين والتي أظهرت النتائج فيها، أن هناك عملية "تكيّف" و"تفاعل مع التطبيقات والموارد والأجهزة" والتطبيقات، بالتوليف ما بين المتوفر من معدّات وأجهزة.
هل تعلق دول عدم الانحياز الآن الجرس، وهل تتحمل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة والاتصال (اليونسكو) مسؤوليتها الطارئة مجدداً. بالدعوة لمنظور جديد لفهم واقع موارد الاتصال وحال الاتصال على المستوى الدولي بعد مرور 40 سنة على تقرير شون ماكبرايد (1980). فجائحة كورونا كشفت الغطاء وبان المستور، والفقر في موارد الاتصال عام وخطير.
عمان / الأردن ـ 1/06/2020
*د. تيسير المشارقة ـ باحث في الدراسات الثقافية والاتصال