آخر الصيف ..
عمان جو_احمد حسن الزعبي
النجار يغلي إبريقا من الشاي فوق قصاصات الخشب الزائد ،بعد أن أنهى تسليم آخر غرفة نوم قبل أسبوع ، المطرب الشعبي يجمع شبّاب الحي باب دكان ، ليسكب لهم ما امتلأت به حنجرته من غناء بعد نفاد الأعراس، مستطيل من تراب وعلامات طوب مكسّر وغرزات عميقة في الأرض تشبه اقتلاع الشوك من الجلد ، تشي بمعرّش بطيخ مُزال..حقائب مدرسية تتدلى على أبواب المكتبات ، ومراييل زرقاء للصفوف الأولى تتأرجح في الهواء تنهض منكبيها أحلام الطفولة..صبي «الأوتوستراد» يؤشّر بيده اليمنى على «صندوقي تين» للسيارات المسرعة ،يخذله الجميع فيغطي عينيه من تشفّي الشمس..كوم من الدرّاق المًهان على ظهر «بكم» يباع بربع السّعر، وسائق «البكم» يحلف أغلظ الأيمان لزبائنه أن الثقوب في حبات الدرّاق ليست الا «نقرة طير»؛فبعُرفنا ... الدود مهانة ونقر الطير فيه من الزهو والمفخرة ..
تهتزّ شجرة المشمش الممشطة عند الغروب فتسقط ورقة صفراء واحدة فوق البئر..الورقة الصفراء في جديلة المشمش تشبه الشيبة البيضاء في غرّة ثلاثينية..انتصاف العمر ،أو البدء في انتصافه هي منبه بين غفوتين،أو غفوة بين منبهين ، مزعج رنينه لكنه يوقظ العينين جيداً...
آخر الصيف ،تقرع الدالية آخر أجراس العنب..وتصبح الألعاب النارية ظاهرة كونية نادرة الحدوث ، يصبح الحديث عن هناك أكثر من هنا..يفتح المغترب هاتفه على موقع شركة الطيران يتأكد من موعد الرحلة وساعة الوصول..يسرح قليلاً ، يأخذ شهيقاً عميقاً ثم يستأنف الحديث عن هنا..في آخر الصيف تنزل الحقائب الغافية على وسادة السفر ، ينفض عنها غبار حزيران وتموز وبعض آب .تزال عن أيديها لواصق رقم الرحلة الماضية، واسم الخطوط الماضية ، والأحلام الماضية ، يتم تفقدها جيداً...تخيّط الأيادي التي قطعها الوداع المتكرر و مسافات السفر ، تُرفى جوانبها من فتق أحزمة المطارات الدائرية ونزق الحمّالين..يتم إصلاح عجلاتها بخيط مؤقت كما إصلاح العمر بحلم مؤقت ، فقد أعطبتها صالات المغادرة وقضم أظافرها الركض وراء لقمة العيش ، الحقيبة آخر ما يتركه المسافر من يديه عند المغادرة وأول من يفلته من يديه عند القدوم...هي وطنه المختصر،وهي جواز السفر، في قلبها الكبير تطوى قمصان الإجازة ،ليالي الصيف المشغولة بالفرح ، بعض ألعاب الصغار ، قيظ النهار، طقوس السهر الليلي كلها تطوى تباعاً فوق بعضها..ثم يغلق «سحّاب» الحقيبة على كل هذه الذكريات، فتصوم عن البوح لعام جديد...
آخر الصيف..تجرّ العربة المثقلة بالحنين ، تواسي الحقائب الكثيرة بعضها في بطن الطائرة فيمسح الغيم دمعها الحزين..آخر الصيف، وقبل الصعود إلى الطائرة.. يهمس المسافر من تحت النافذة لموظف الجوازات:
« أرجوك خذ قلبي بدلاً من جوازي واختمه بـــ»القدوم»...فقد امتلأت صفحاته يا صاحبي بالمغادرة..أرجوك ، تجرأ فأنا اكره النداء الأخير..أكره صوت التأكيد بعد تلك الصافرة»..
نداء..نداء..نداء..للمسافرين الى .. يرجى التوجه الى البوابة رقم...
النجار يغلي إبريقا من الشاي فوق قصاصات الخشب الزائد ،بعد أن أنهى تسليم آخر غرفة نوم قبل أسبوع ، المطرب الشعبي يجمع شبّاب الحي باب دكان ، ليسكب لهم ما امتلأت به حنجرته من غناء بعد نفاد الأعراس، مستطيل من تراب وعلامات طوب مكسّر وغرزات عميقة في الأرض تشبه اقتلاع الشوك من الجلد ، تشي بمعرّش بطيخ مُزال..حقائب مدرسية تتدلى على أبواب المكتبات ، ومراييل زرقاء للصفوف الأولى تتأرجح في الهواء تنهض منكبيها أحلام الطفولة..صبي «الأوتوستراد» يؤشّر بيده اليمنى على «صندوقي تين» للسيارات المسرعة ،يخذله الجميع فيغطي عينيه من تشفّي الشمس..كوم من الدرّاق المًهان على ظهر «بكم» يباع بربع السّعر، وسائق «البكم» يحلف أغلظ الأيمان لزبائنه أن الثقوب في حبات الدرّاق ليست الا «نقرة طير»؛فبعُرفنا ... الدود مهانة ونقر الطير فيه من الزهو والمفخرة ..
تهتزّ شجرة المشمش الممشطة عند الغروب فتسقط ورقة صفراء واحدة فوق البئر..الورقة الصفراء في جديلة المشمش تشبه الشيبة البيضاء في غرّة ثلاثينية..انتصاف العمر ،أو البدء في انتصافه هي منبه بين غفوتين،أو غفوة بين منبهين ، مزعج رنينه لكنه يوقظ العينين جيداً...
آخر الصيف ،تقرع الدالية آخر أجراس العنب..وتصبح الألعاب النارية ظاهرة كونية نادرة الحدوث ، يصبح الحديث عن هناك أكثر من هنا..يفتح المغترب هاتفه على موقع شركة الطيران يتأكد من موعد الرحلة وساعة الوصول..يسرح قليلاً ، يأخذ شهيقاً عميقاً ثم يستأنف الحديث عن هنا..في آخر الصيف تنزل الحقائب الغافية على وسادة السفر ، ينفض عنها غبار حزيران وتموز وبعض آب .تزال عن أيديها لواصق رقم الرحلة الماضية، واسم الخطوط الماضية ، والأحلام الماضية ، يتم تفقدها جيداً...تخيّط الأيادي التي قطعها الوداع المتكرر و مسافات السفر ، تُرفى جوانبها من فتق أحزمة المطارات الدائرية ونزق الحمّالين..يتم إصلاح عجلاتها بخيط مؤقت كما إصلاح العمر بحلم مؤقت ، فقد أعطبتها صالات المغادرة وقضم أظافرها الركض وراء لقمة العيش ، الحقيبة آخر ما يتركه المسافر من يديه عند المغادرة وأول من يفلته من يديه عند القدوم...هي وطنه المختصر،وهي جواز السفر، في قلبها الكبير تطوى قمصان الإجازة ،ليالي الصيف المشغولة بالفرح ، بعض ألعاب الصغار ، قيظ النهار، طقوس السهر الليلي كلها تطوى تباعاً فوق بعضها..ثم يغلق «سحّاب» الحقيبة على كل هذه الذكريات، فتصوم عن البوح لعام جديد...
آخر الصيف..تجرّ العربة المثقلة بالحنين ، تواسي الحقائب الكثيرة بعضها في بطن الطائرة فيمسح الغيم دمعها الحزين..آخر الصيف، وقبل الصعود إلى الطائرة.. يهمس المسافر من تحت النافذة لموظف الجوازات:
« أرجوك خذ قلبي بدلاً من جوازي واختمه بـــ»القدوم»...فقد امتلأت صفحاته يا صاحبي بالمغادرة..أرجوك ، تجرأ فأنا اكره النداء الأخير..أكره صوت التأكيد بعد تلك الصافرة»..
نداء..نداء..نداء..للمسافرين الى .. يرجى التوجه الى البوابة رقم...
تعليقات القراء
لا يوجد تعليقات