العدوان يكتب: بناء "مئوية الأردن الثانية" .. المنهج والأدوات
عمان جو- د. رائد سامي العدوان - هناك حديث نبوي شريف ورد في الصحيحين، بسيط الصياغة عميق المعنى، حول خلاف بسيط بين صحابيين، دفع الأول للاستغاثة: "يا للمهاجرين" والآخر: "يا للأنصار". نداء استغاثة علّق عليه الرسول الكريم برد بليغ ونصيحة أبلغ، حيث قال عليه الصلاة والسلام عندما سمع نداء الصحابيين: "ما بال دعوى الجاهلية؟!"، آمرا بعد أن سمع القصة: "دعوها فإنها منتنة!!". وبعيدا عن النقلة الروحية التي نقل فيها الإسلام العرب من الظلمات إلى النور، فإنه أسس لفلسفة سياسية واجتماعية جديدة، تجاوزت فيها رابطة الإيمان روابط الدم والمصاهرة والانتماء القبلي، عندما وضع الشعار الخالد: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" لتكريس معنى: "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى".
نسوق هذا الحديث كمدخل لتوضيح أمر لا يبتعد كثيرا عن مغزى الرسالة التي يحملها، ونقصد فكرتي الانتماء والهوية الجامعة. فقد شكّل الإسلام "هوية جامعة" لعموم المسلمين على اختلاف ألسنتهم وأعراقهم وانتماءاتهم القبلية، وبالتالي لم يكن مقبولا -في حادثة الصحابيين- النكوص إلى هويات فردية سابقة عليه، كما في التحذير النبوي الكريم. وبنفس المنطق، فدولة المدينة، ومن بعدها دولة الخلافة الراشدة، وما تلاهما من خلافات وممالك، وإن استوعبت البعد القبلي العشائري، فإنها تجاوزته على صعيد "الانتماء المُعاش"، إلى رابطة أسمى، يمكن تسميتها بمصطلحات اليوم "رابطة المواطنة" أو الانتماء إلى "دولة المسلمين"، التي تتجاوز منطق الانتماء للمنطقة أو القبيلة.
وحتى نربط هذا المدخل التاريخي مع النقاش الجاري في بلدنا اليوم، والذي دشنه جلالة سيدنا المفدى في الأوراق النقاشية، التي أطّرت بدورها أعمال "اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية"، نقول التالي: إن ما نعتبره "بديهية" عدم إمكانية إدارة المئوية الثانية للأردن، بوسائل وأدوات وعقليات المئوية الأولى، انسجاما مع ما كرسه العرب من مبدأ : "لكل زمان دولة ورجال"، لا يكتمل إلا إذا زاوجناه مع ما نعتبره بديهية أخرى، تقول بأن الانتماء إلى "أردن المئوية الثانية" ونقصد به منطق المواطنة أو "الهوية الجامعة"، يتسامى على ما سبقه من انتماءات، وإن كان لا يلغيها، بكلام آخر، منطق الانتماءات الفرعية "ما قبل تأسيس" المملكة الأردنية الهاشمية!! فالبديهية الأولى تتعلق بالمحتوى العملي، بينما توجه الثانية المحتوى النظري للمرحلة الحالية. هذه المعاني هي رجع صدى لكلمات سيدنا المفدى في رسالته الملكية لأبناء شعبه قبل أيام، عندما أكد على أننا "نريد مستقبلا منفتحا على التغيير والتطور، يستوعب الأفكار الجديدة، ويحتضن التنوع، ويوسع قاعدة قواسمنا المشتركة، لنبقى رمزا للتسامح والإيثار".
وحتى نكون صريحين وواضحين، فمن المؤسف، إن لم نقل الخطير، هذه الحرب المعلنة من أطراف متعددة على مصطلح "الهوية الجامعة" الذي استخدمه جلالة الملك عبد الله الثاني المفدى لوصف واقع الأردن في مئويته الثانية، إدراكا منه لأهمية تكريس رابطة المواطنة، التي تعني أساسا الانتماء إلى وطن واحد، يتعايش الجميع تحت سقفه سواسية في الحقوق والواجبات. إن رفع راية الانتماءات الفرعية، أو "انتماءات ما قبل الدولة" بمصطلحات علم الاجتماع، سواء كانت هذه الانتماءات دينية أو عرقية أو مذهبية أو قبلية أو مناطقية.. الخ، وجعلها في مواجهة مباشرة مع "الهوية الجامعة"، يسلب الوطن تنوعه الذي لطالما كان ولا زال، مصدر فخر وغنى واعتزاز، ساهم في وضع الأردن في المكانة التي يحتلها الآن، عربيا وإقليما ودوليا، ناهيك عن احتمال تغذيته لمنطق ولغة ونزعة الانتماءات الفرعية، بديلا للانتماء الوطني الجامع، والتي تتناقض ببساطة مع أبسط أحاسيس الأردنيين عندما يلتقون في الغربة، أو يتحلقون حول شاشة التلفزيون يتابعون مباريات منتخبهم الوطني، أو يهتفون باسم البطل الذي ينال ميدالية أولمبية!
لقد حرص سيدنا أطال الله عمره على تأكيد أهمية ومصيرية الوصول إلى حياة حزبية حقيقية، تفرز حكومات برامجية تؤهل حامليها لتولي مهام إدارة الشأن العام، إدراكا منه أن "الرابطة الحزبية" هي أحد أوجه الانتماءات الحديثة، حيث يجتمع الناس حول الفكرة والبرنامج بدل الالتفاف حول الزعامات والعصبيات. وهنا يبرز التحدي الذي يمكن كسبه في حالتنا الأردنية، إذا أحسنا التعامل مع نقاط القوة التي نمتلكها. فالمجتمع الأردني المعتز بمكوناته العشائرية، الغني بطوائفه ودياناته، المستند إلى تماسك نسيجه المجتمعي، يتكون من مواطنين هم من بين الأعلى تعليما في العالم، وليس في منطقتنا وحسب؛ مجتمع تنتشر طاقاته البشرية في مختلف أصقاع الأرض، تقدم ثمرة جهدها وخبرتها للمجتمعات التي تتواجد فيها، وكل ما نحتاجه هو تأسيس منظومات تشريعية وقانونية وتنفيذية، تسند فيها المسؤولية لمن يرضى الناس عن برامجه وأولوياته، وتضمن محاسبة من يتصدّون لممارسة هذه المسؤوليات على إنجازاتهم وإخفاقاتهم، الأمر الذي سيدفع جميع المواطنين إلى المساهمة الطوعية الواعية والراضية، في تحمل أعباء المئوية الثانية وتقاسم منافعها.
وترجمة لما سبق، حرصت "اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية" على اتباع سياسة التدرج في الوصول إلى هذه الغايات بشكل سليم وآمن، حيث اقترحت نظاما انتخابيا يتدرج في زيادة حصة الأحزاب في مجلس النواب، حتى يتاح لهذه الأحزاب إدماج الشباب والمرأة في مواقع المسؤولية فيها، بشكل حقيقي وليس صوري، والتدرب على صياغة البرامج والخطط السياسية والاقتصادية والتنموية، والتمرس في التواصل الشفاف مع المواطنين والتعبير تاليا عن مصالحهم الواقعية، إدراكا منها أن محدودية التجربة الحزبية الحالية، المعتمدة على رجالات المئوية الأولى، شعاراتها، ووسائل عملها، ستعرقل الدخول الآمن لوطننا في مئويته الثانية.
ووفقا لهذا الفهم، أتمنى على مشاريع الأحزاب التي تستعد للحصول على الترخيص، أو تلك التي نشأت بالفعل مؤخرا، إضافة لأكثر من خمسين حزبا "موجودة على الورق" فعليا، أن لا تركز على انتخابات مجلس النواب، بل ولا تشارك فيها إلا بشكل رمزي، وأن تهتم بدلا من ذلك بعملية إدارة الشأن المحلي، وانتخابات البلديات والمحافظات، وتتخذ منها "مختبرا ومدرسة" تصنع فيها برامجها، تصوغ فيها خطاباتها، تصقل فيها كوادرها، وتتمكن من مد جسور التواصل المباشر مع المواطنين، مما سيكرس في أذهان المواطنين هويتها الحزبية، ويسهل مهمتها اللاحقة في ترشيح قياداتها المجتمعية إلى مقاعد مجلس النواب.
ختاما، أرى أن الفهم الدقيق للمرحلة يتطلب التعامل معها كمرحلة "انتقالية"، يقوم خلالها وطننا ونخبه وفاعليه، بتوفير شروط التأسيس المحكم والإدارة الفاعلة لمئويتنا الثانية، وهو ما اجتهدت لجنة تحديث المنظومة السياسية، على اختلاف انتماءاتها وأيديولوجياتها وتخصصاتها في القيام به، وترجمته في المقترحات الموضوعة على طاولة النقاش المجتمعي والاعتماد التشريعي والتنزيل التنفيذي. نقاش يجب أن يحرص الجميع على الترفع عن النظر إليه من زاويته الشخصية الضيقة، وأن يرتقي إلى مستوى رهاناته الوطنية، وأن يسهم فيه بنضج أو أن يتنحى عنه جانبا بهدوء!
أن التشويش على هذا النقاش المصيري، دفاعا عن مصالح فئوية ضيقة، من شأنه ترتيب فواتير باهظة -لا قدّر الله- لا يحتاج وطننا إلى دفعها في هذه المرحلة الحساسة من تاريخه. وصدق جلالة سيدنا المفدى عندما قال: "لا نريد أن يكون لأولئك الذين يجدون في معاركهم الفردية أو بطولاتهم الشخصية غايات أهم من مصلحة الوطن مكانا بيننا".
نسوق هذا الحديث كمدخل لتوضيح أمر لا يبتعد كثيرا عن مغزى الرسالة التي يحملها، ونقصد فكرتي الانتماء والهوية الجامعة. فقد شكّل الإسلام "هوية جامعة" لعموم المسلمين على اختلاف ألسنتهم وأعراقهم وانتماءاتهم القبلية، وبالتالي لم يكن مقبولا -في حادثة الصحابيين- النكوص إلى هويات فردية سابقة عليه، كما في التحذير النبوي الكريم. وبنفس المنطق، فدولة المدينة، ومن بعدها دولة الخلافة الراشدة، وما تلاهما من خلافات وممالك، وإن استوعبت البعد القبلي العشائري، فإنها تجاوزته على صعيد "الانتماء المُعاش"، إلى رابطة أسمى، يمكن تسميتها بمصطلحات اليوم "رابطة المواطنة" أو الانتماء إلى "دولة المسلمين"، التي تتجاوز منطق الانتماء للمنطقة أو القبيلة.
وحتى نربط هذا المدخل التاريخي مع النقاش الجاري في بلدنا اليوم، والذي دشنه جلالة سيدنا المفدى في الأوراق النقاشية، التي أطّرت بدورها أعمال "اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية"، نقول التالي: إن ما نعتبره "بديهية" عدم إمكانية إدارة المئوية الثانية للأردن، بوسائل وأدوات وعقليات المئوية الأولى، انسجاما مع ما كرسه العرب من مبدأ : "لكل زمان دولة ورجال"، لا يكتمل إلا إذا زاوجناه مع ما نعتبره بديهية أخرى، تقول بأن الانتماء إلى "أردن المئوية الثانية" ونقصد به منطق المواطنة أو "الهوية الجامعة"، يتسامى على ما سبقه من انتماءات، وإن كان لا يلغيها، بكلام آخر، منطق الانتماءات الفرعية "ما قبل تأسيس" المملكة الأردنية الهاشمية!! فالبديهية الأولى تتعلق بالمحتوى العملي، بينما توجه الثانية المحتوى النظري للمرحلة الحالية. هذه المعاني هي رجع صدى لكلمات سيدنا المفدى في رسالته الملكية لأبناء شعبه قبل أيام، عندما أكد على أننا "نريد مستقبلا منفتحا على التغيير والتطور، يستوعب الأفكار الجديدة، ويحتضن التنوع، ويوسع قاعدة قواسمنا المشتركة، لنبقى رمزا للتسامح والإيثار".
وحتى نكون صريحين وواضحين، فمن المؤسف، إن لم نقل الخطير، هذه الحرب المعلنة من أطراف متعددة على مصطلح "الهوية الجامعة" الذي استخدمه جلالة الملك عبد الله الثاني المفدى لوصف واقع الأردن في مئويته الثانية، إدراكا منه لأهمية تكريس رابطة المواطنة، التي تعني أساسا الانتماء إلى وطن واحد، يتعايش الجميع تحت سقفه سواسية في الحقوق والواجبات. إن رفع راية الانتماءات الفرعية، أو "انتماءات ما قبل الدولة" بمصطلحات علم الاجتماع، سواء كانت هذه الانتماءات دينية أو عرقية أو مذهبية أو قبلية أو مناطقية.. الخ، وجعلها في مواجهة مباشرة مع "الهوية الجامعة"، يسلب الوطن تنوعه الذي لطالما كان ولا زال، مصدر فخر وغنى واعتزاز، ساهم في وضع الأردن في المكانة التي يحتلها الآن، عربيا وإقليما ودوليا، ناهيك عن احتمال تغذيته لمنطق ولغة ونزعة الانتماءات الفرعية، بديلا للانتماء الوطني الجامع، والتي تتناقض ببساطة مع أبسط أحاسيس الأردنيين عندما يلتقون في الغربة، أو يتحلقون حول شاشة التلفزيون يتابعون مباريات منتخبهم الوطني، أو يهتفون باسم البطل الذي ينال ميدالية أولمبية!
لقد حرص سيدنا أطال الله عمره على تأكيد أهمية ومصيرية الوصول إلى حياة حزبية حقيقية، تفرز حكومات برامجية تؤهل حامليها لتولي مهام إدارة الشأن العام، إدراكا منه أن "الرابطة الحزبية" هي أحد أوجه الانتماءات الحديثة، حيث يجتمع الناس حول الفكرة والبرنامج بدل الالتفاف حول الزعامات والعصبيات. وهنا يبرز التحدي الذي يمكن كسبه في حالتنا الأردنية، إذا أحسنا التعامل مع نقاط القوة التي نمتلكها. فالمجتمع الأردني المعتز بمكوناته العشائرية، الغني بطوائفه ودياناته، المستند إلى تماسك نسيجه المجتمعي، يتكون من مواطنين هم من بين الأعلى تعليما في العالم، وليس في منطقتنا وحسب؛ مجتمع تنتشر طاقاته البشرية في مختلف أصقاع الأرض، تقدم ثمرة جهدها وخبرتها للمجتمعات التي تتواجد فيها، وكل ما نحتاجه هو تأسيس منظومات تشريعية وقانونية وتنفيذية، تسند فيها المسؤولية لمن يرضى الناس عن برامجه وأولوياته، وتضمن محاسبة من يتصدّون لممارسة هذه المسؤوليات على إنجازاتهم وإخفاقاتهم، الأمر الذي سيدفع جميع المواطنين إلى المساهمة الطوعية الواعية والراضية، في تحمل أعباء المئوية الثانية وتقاسم منافعها.
وترجمة لما سبق، حرصت "اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية" على اتباع سياسة التدرج في الوصول إلى هذه الغايات بشكل سليم وآمن، حيث اقترحت نظاما انتخابيا يتدرج في زيادة حصة الأحزاب في مجلس النواب، حتى يتاح لهذه الأحزاب إدماج الشباب والمرأة في مواقع المسؤولية فيها، بشكل حقيقي وليس صوري، والتدرب على صياغة البرامج والخطط السياسية والاقتصادية والتنموية، والتمرس في التواصل الشفاف مع المواطنين والتعبير تاليا عن مصالحهم الواقعية، إدراكا منها أن محدودية التجربة الحزبية الحالية، المعتمدة على رجالات المئوية الأولى، شعاراتها، ووسائل عملها، ستعرقل الدخول الآمن لوطننا في مئويته الثانية.
ووفقا لهذا الفهم، أتمنى على مشاريع الأحزاب التي تستعد للحصول على الترخيص، أو تلك التي نشأت بالفعل مؤخرا، إضافة لأكثر من خمسين حزبا "موجودة على الورق" فعليا، أن لا تركز على انتخابات مجلس النواب، بل ولا تشارك فيها إلا بشكل رمزي، وأن تهتم بدلا من ذلك بعملية إدارة الشأن المحلي، وانتخابات البلديات والمحافظات، وتتخذ منها "مختبرا ومدرسة" تصنع فيها برامجها، تصوغ فيها خطاباتها، تصقل فيها كوادرها، وتتمكن من مد جسور التواصل المباشر مع المواطنين، مما سيكرس في أذهان المواطنين هويتها الحزبية، ويسهل مهمتها اللاحقة في ترشيح قياداتها المجتمعية إلى مقاعد مجلس النواب.
ختاما، أرى أن الفهم الدقيق للمرحلة يتطلب التعامل معها كمرحلة "انتقالية"، يقوم خلالها وطننا ونخبه وفاعليه، بتوفير شروط التأسيس المحكم والإدارة الفاعلة لمئويتنا الثانية، وهو ما اجتهدت لجنة تحديث المنظومة السياسية، على اختلاف انتماءاتها وأيديولوجياتها وتخصصاتها في القيام به، وترجمته في المقترحات الموضوعة على طاولة النقاش المجتمعي والاعتماد التشريعي والتنزيل التنفيذي. نقاش يجب أن يحرص الجميع على الترفع عن النظر إليه من زاويته الشخصية الضيقة، وأن يرتقي إلى مستوى رهاناته الوطنية، وأن يسهم فيه بنضج أو أن يتنحى عنه جانبا بهدوء!
أن التشويش على هذا النقاش المصيري، دفاعا عن مصالح فئوية ضيقة، من شأنه ترتيب فواتير باهظة -لا قدّر الله- لا يحتاج وطننا إلى دفعها في هذه المرحلة الحساسة من تاريخه. وصدق جلالة سيدنا المفدى عندما قال: "لا نريد أن يكون لأولئك الذين يجدون في معاركهم الفردية أو بطولاتهم الشخصية غايات أهم من مصلحة الوطن مكانا بيننا".
تعليقات القراء
لا يوجد تعليقات