إتصل بنا من نحن إجعلنا صفحتك الرئيسية

تنمية القيم كنقطة أساسيّة في حكي القرايا لرمضان الرواشدة


عمان جو - د. نبيل طنوس -

“إن القيم تقوم في نفس الإنسان بالدور الّذي يقوم به ربان السفينة، يجرّيها ويرسّيها عن قصد مرسوم وإلى هدف معلوم. ففهم الإنسان على حقيقته هو فهم القيم الّتي تمسك بزمامه وتوجهه”.
(د. زكي نجيب محمود)



كيف نقرأ رواية الكاتب رمضان الرواشدة ” حكي القرايا”؟ * (انظر ملاحظة 1 في الهوامش) هل نكتفي بالعنوان ونعتبره دليلًا أنّنا أمام رواية تاريخية؟ هل هي حقًّا كذلك؟ وعليه سنحاول دراسة هذه الرواية حسب عاملين أساسيّين: العتبات والمتن. وسنحاول اختراق النصّ لمعرفة رسالة الكاتب للمتلقي. ماذا يريد الكاتب؟
البِنية الروائيّة:
العتبات: عنوان الرواية “حكي القرايا” هو العنوان الأساس، وعناوين فصولها هي عناوين فرعيّة وثانويّة. جاءت لخدمة العنوان الرئيسيّ وتكملته.
العنوان هو عتبة النصّ الأدبيّ، فقد يكون معلوماتيًّا، أو إغرائيًّا أو نزعاتيًّا؛ وهو رسالة للكاتب. وهو كما تقول فحماوي وتد “العنوان للكتاب كالاسم للشّيء. به يعرف وبفضله يُتداول ويشار به إليه ويدلّ به عليه ويشير إلى علاقة الكاتب بالمضمون” (فحماوي وتد، 2013).
“حكي القرايا” هو عنوان الرواية على الغلاف الّذي يحتوي أيضًا على لوحة فنيّة لقرية، وهو عنوان معلوماتيّ حيث لوحة القرية تؤكّد مضمون العنوان.
المقصود بالقرايا هو القرى والريف، والضواحي النائية البعيدة عن المدن ومراكز الأحداث، ولذلك حكي القرايا هو ما يدور فيها من أمور تتعلّق بموضوع معيّن، أو بمشكلة معيّنة شعبيّة يجمعها الكاتب من مقابلات مع اهل القرى ويرويها لنا بشكل قصصٍ وحكايات مشوّقة، وهي فرصة للمتلقّين لمعرفة حياة سكان القرى، حيث تسمع حكايا وأحاديث أو معلومات وأخبار قد تكون حقيقيّة وقد تكون متخيّلة. يقول صعب (2017) قد تكون “مستقاة من مصادر غير رسميّة، من فلان أو علان، وربّما أطلقت لتشويه سمعة فلان أو علّان، وقد تكون دعاية فقط للتحريض”. وكثيرًا ما نسمع التعبير “حكي السرايا ما بيجي على حكي القرايا”، والسرايا هي المؤسّسة الرسميّة مثل المجلس القرويّ، أو ديوان المختار الّتي من المفروض أن تكون المرجعيّة لكلّ معلومة.
المؤرّخة والأديبّة هند أبو الشعر، في تظهيرها للرواية، تقول” إنّ الرواية الجديدة للروائيّ الأردنيّ رمضان الرواشدة تُعتبر نقلة مميّزة في إنجازه الروائيّ المتجدّد، فـ “حكي القرايا” تنهَل من المرويّ الشفويّ للجنوب الأردنيّ، وتستند إلى المكان بتفاصيله الّتي يعرفها الروائيّ جيّدًا، وتوثّق لمرحلة تاريخيّة انتقاليّة في منطقة “الشوبك”، حيث تشكّل القلعة العظيمة بؤرة الأحداث، وفاتحة الرواية تبدأ بحملة القائد المصريّ “إبراهيم باشا” على الكرك، وتتوّج الأحداث بـ “ثورة الشوبك” المعروفة احتجاجًا على محاولة جنود الدولة العثمانيّة تسخير نساء الشوبك لنقل الماء للجنود. صحيح أنّ الرواشدة لا يكتب رواية تاريخيّة تقليديّة، لكنّه يستند بقوّة إلى الزمان والمكان منذ عام 1834م، وكعادته، فحضور المكان كبير لديه، وقد أقنعنا بشخصيّاته الحميمة، وبتاريخه المتخيّل، وبالأحداث الّتي تستند إلى الروايات الشفويّة، وللحقّ فهذه رواية استثنائيّة، تقدّم حالة تقع بين الرواية التاريخيّة والحديثة”.
نعرف أنّ في هذه المرحلة حدثت صراعات وحروب وثورات ضدّ الاحتلال التركيّ العثمانيّ في بلاد الشرق، بما فيها الأردنّ وهنا اندلعت ثورة الشوبك عام 1895 وثوره الكرك سنة 1910.
أضف إلى هذا انتشار التخلّف الدينيّ والمعرفيّ، والفقر والجهل بين أبناء المنطقة، لدرجة أنَّ “أغلب أبناء القرية يصومون نصف نهار، ولا يصلّون الصلاة المعروفة، إذ لم يكن في القرية خطيب شاميّ يعلّمهم أصول الصلاة والصوم، ولم يكن ثمّة جامع للصلاة، وكثيرًا ما كانوا يعلمون بشهر رمضان بعد انتهائه”، وكان يعلم أهل القرية نبأ قدوم شهر رمضان من قادم إليهم، وإلّا أمضَوْا عامهم بلا رمضان ولا عيد. والصراعات الداخليّة بين العشائر وقطّاع الطرق مثل جماعة الدعجان، وجماعة عيال العلّان، وحالة عدم الاستقرار بسبب انتشار عمليّات السلب والنهب والغزو مثل جماعة المناعسة وخلافات على السيطرة على الموارد.
يجدر بنا الإشارة إلى ما قاله الرواشدة في حفل إشهار الكاتبة والأكاديميّة أريج الطوالبة كتابها الذي نالت عليه رسالة الماجستير من جامعة اليرموك بعنوان “البناء الفني في روايات رمضان الرواشدة”(انظر ملاحظة 2 في الهوامش) إذ قال “إنّه يحاول دائمًا التركيز في رواياته على أربع قضايا مترابطة، وهي الشخصيّة الأردنيّة، والمكان الأردنيّ، والهُويّة الوطنيّة، والبعد النضاليّ للأردنيين من أجل فلسطين”(موقع “دقيقة أخبار” 26.9.2024).
إنَّ الواقعيّة كانت أهمّ عناصر النجاح الفنيّ في عمل الرواشدة، كما يقول الزيود (الدستور، 2024) و”معروف أنَّ المذهب الواقعيّ يهتمّ بتصوير الحياة ومظاهرها بعيدًا عن المثاليّة، فيغدو العمل الأدبيّ مرآة تعكس حياة الأفراد في المجتمع بصدق ودقّة، لأنَّه يُصوّر الحياة بتناقضاتها، بقبحها وجمالها، وخيرها وشرّها، وبساطتها وتعقيدها، وبهذا يكون العمل الروائيّ صورة مصغّرة عن الحياة”.
متن الرواية يحتوي على أثني عشر عنوانًا فرعيّا معلوماتيًّا، وهي في غالبيتها تلمّح للمتلقّي عن فحوى المضمون، وكما نقول “يُقرأ المكتوب من عنوانه”. العدد 12 كما يقول ثائر البياتي (البياتي، 2022) “هو عددٌ من الأعداد الطبيعيّة، تميَّز بخواصّ نادرة، وبصفات فريدة جعلته وبمرور آلاف السنين أن يصبح عنصرًا مهمًا ورمزًا مقدسًا، بعد دخوله في مفاصل الحياة السومرية وأساطيرها، وانتقاله الى الحضارات البشريّة وقصصها وإلى الأديان ومعتقداتها”. (انظر ملاحظة 3 في الهوامش)
العنوان الفرعيّ “منصور الأعمى” هو عنوان مفاجئ حيث يتوقع المتلقي شخصيّة ضعيفة ومترهّلة وساذجة، ويتفاجأ بأنّ منصورًا شيخٌ جليلٌ وقاضٍ عشائريٍّ بامتياز.
الإهداء: الإهداء إلى أمّه ويقول “إلى أوّل من استمعت إلى قصصها الغرائبيّة والعجيبة الّتي كانت تسردها على شكل حكايات عن منطقتنا الجنوبيّة في طفولتي المبكّرة، وأوّل من علّمتني السرد المبهر المغلّف بالتشويق. إلى أمّي سكينة بنت الشيخ طالب الشخيبي. رحمها الله.”.
التنويه (حكي القرايا، ص 5) يعتبر الكاتب هذا التنويه ضروريّا ويشير فيه إلى أنّ “هذه الرواية لا تؤرّخ الأحداث، ولا تتناول التاريخ بصورة متسلسلة، لكنّ بعض أحداثها تتقاطع مع المرويّ الشفويّ في الجنوب الأردنيّ، ومع بعض الوقائع التاريخيّة المجزوءة …”، فهو في سرده هذا يتّكئ على الحكايا وعلى المرويّ الشفويّ في قرى الجنوب الأردنيّ. ورد هذا التنويه أيضًا في موقع “الغد الأردنيّ”، 29.9.2024”.
اللّغة والأسلوب السرديّ:
لغة السرد في رواية “حكي القرايا” تميّزت بسلاسة مفرداتها ووضوحها فهي تتّكئ على اللّغة الشفويّة من تعابير عاميّة وأمثال شعبيّة واهازيج غنائيّة (انظر ملاحظة 4 في الهوامش)، فتصل هذه اللّغة إلى المتلقي بسهولة وتُمكِّنه من دخول عالم الرواية خاصّة المتلقّي الخبير باللّهجة البدويّة في جنوب الأردنّ، ولكنّها عكس ذلك بالنسبة لمتلقٍ خارج الأردنّ حيث يضطر إلى البحث في المعاجم أو الاستفسار عنها، مع هذا نعتقد أنّه من الضروريّ استعمال هذا الأسلوب السرديّ الّذي يُرَصِّع اللّغة السرديّة بتعابير من اللّهجة البدويّة، وهذا ما يجعل الرواية أكثر واقعيّة إذ تعطي المتلقّي وصفًا دقيقًا للحالة المطروحة في المضمون الروائي. قد يبدو هذا الأسلوب بسيطًا لكنّه في نظرنا، عاملٌ مهمّ يساعد مُخَيّلة المتلقّي في تبصُّر واستيعاب الحالات والأحداث والشخصيّات وسلوكيّاتها وأماكن الحدث وغيرها.
شخصيّات الرواية:
الراوي: الراوي هو من يسرد الأحداث، ناقلًا لها بكلّ تفاصيلها. جاذبيّة سرده تُحَدِّد مدى نجاح الروايّة وقوّة تأثيرها على المتلقّي ومدى انتشارها. وهذا يتعلّق في عدّة عوامل تتعدّد فيها تقنيّات السرد، مثل الوصف والحوار لإثراء المضمون وجعله أكثر جاذبيّة للمتلقّي، والتبئير على نقاط معيّنة حيث يؤدّي كلّ ذلك إلى حبكة دراميّة، وكيفيّة بناء شخصيّات محوريّة ومؤثّرة، وتداعي الأفكار الحرّ، وتسلسل منطقيّ ودراميّ للأحداث. فكلّ هذه وغيرها تشدّ القارئ وتحفزه على متابعة القراءة. تجدر بنا الإشارة إلى أنّ الراوي هو ليس نفسه الكاتب، إنّما هو شخصيّة خياليّة تتولّى عمليّة السرد وقد سُمّيت هذه الشخصيّة: “الأنا الثانية للكاتب”. قد تكون بعض الجوانب المشتركة بين الكاتب والراوي، إلا أنّ ذلك ليس بالضرورة.
الراوي في حكي القرايا هو راوٍ عليم بكلّ تفاصيل الحكايا بالأسماء والأحداث الصغيرة والكبيرة، واللّغة المحكيّة، والأمثال الشعبيّة والعادات والتقاليد والأكلات وغيرها (انظر ملاحظة 4 في الهوامش) وهذا يعتبر توثيقًا مهمًّا للتاريخ الشفويّ الأردنيّ.
يروي الأحداث بضمير الغائب ويعرفها كلّها، ويسردها دون الإشارة لنفسه، مثل “تأخّر منصور في الزواج مقارنة ببقيّة أقرانه” (حكي القرايا، ص 9)، و”نام الرجال أقلّ من ساعتين، وبعد انتصاف الليل بدأوا بالتجمّع” (حكي القرايا ص 47).
الراوي العليم استعان بالكاتب الرواشدة الّذي استثمر الروايات الشفويّة والحكايات الشعبيّة في الجنوب الأردنيّ لبناء روايته.
الشخصيّات الأخرى:
الشخصيّة الرئيسيّة: هي الشخصيّة الّتي تقوم بدور أساسيّ في الرواية وتتمحور حولها الأحداث والأفكار والأحاسيس الأساسيّة، وهي عبارة عن موقفٍ بطوليٍّ فرديٍّ. الشخصيّة الرئيسيّة في أيّ نصّ أدبيّ تُعتبر نقطة مركزيّة فيه، أمّا الشخصيّات الباقية فتكون عوامل مساعدة وداعمة لها.
منصور الأعمى: شخصيّة رئيسيّة وهو شيخٌ جليلٌ وقاضٍ عشائريّ بامتياز بمعنى “عقيد قومه” (حكي القرايا ص46).
راشد: أصبح شخصيّة رئيسيّة بعد مقتل والده منصور الأعمى.
الشخصيّات الثانويّة: الشخصيّة الثانويّة هي الشخصيّة المساعدة والداعمة للشخصيّة الرئيسيّة ودورها إكمال الأحداث من أجل إكمال الرواية، كما تبرز في سلوكها جوانب مختلفة للشخصيّة الرئيسيّة. تُشارك الشخصيّات الثانويّة في تطور الأحداث.
فاطمة السالم: زوجة منصور الأعمى هي شخصيّة ثانويّة.
علياء الضمور: زوجة إبراهيم الضمور هي شخصيّة ثانويّة.
إبراهيم الضمور: الّذي آوى الدخيل الفلسطيني وضحّى بولديه لعدم تسليم دخيله هو شخصيّة ثانويّة.
سطام الكركي: شيخٌ فارس وقائد عشائر الكركيّة. شخصيّة ثانويّة.
عمران الدعجان: قائد جماعة قطّاع الطرق “الدعجان”.
رسالة الكاتب الرواشدة في روايته هي تنمية القيم الأخلاقيّة:
القيم الأخلاقيّة هي ما يقود الإنسان إلى أعلى درجات الإنسانيّة وبدونها يفقد المجتمع الإنساني المبادئ والأصول والقوانين التي تنظِّم حياته. إنّه لمن الضروريّ الاعتناء بها خاصّة وأن للإنسان مكانة خاصّة بين جميع المخلوقات.
جاء في القرآن الكريم: ” وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ” (القرآن الكريم سورة القلم 68 الآية 4)”لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم” (سورة التين 95 الآية 4)
وفي العهد القديم: “نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا…. فخلق اللـه الإنسان على صورته، على صورة اللـه خلقه، ذكرًا وأنثى خلقهما” (سفر التكوين 1، 26-27).
ضرورة تنمية القيم الأخلاقيّة وردت عند د. سامية عبد السلام (1992): “تعدّ أزمة القيم من السمات الواضحة لهذا العصر نتيجة لطغيان المادة على كلّ ما حولها من قيم ومبادئ، والحقّ أنّه لا سبيل إلى علاج هذا إلّا باستثارة ما لدى الإنسان من قدرة على الدهشة والتعجّب ودعوته إلى القيم والإحساس بعمق الحياة وثرائها”.
والحقّ أنّ الإنسان هو الكائن الأخلاقيّ الوحيد الّذي يحمل أمانة القيم؛ لأنّه حامل لمبدأ أسمى أو هو المبدع الحقيقيّ لذلك الواقع الحافل بالقيم، ومن هنا فشخصيّة الإنسان هي شخصيّة تقويمية (valuational) ولم يخطئ الفيلسوف “كانط” عندما وضع السماء المرصّعة بالنجوم في كفّة والقانون الأخلاقيّ في الكفّة الأخرى؛ فما كان ذلك إلا إقامة ضرب من التوازن بين هذين العنصرين اللّذين يستثيران في النفس الشعور بالإعجاب والروعة.
تعتبر تنمية القيم الاخلاقيّة لدى الأطفال وأبناء الشبيبة من أهمّ المواضيع الّتي يجب أن تثير اهتمام الأهل والمربّين في البيت والمدرسة، لأن عملية بناء الأجيال الصاعدة ترتكز على تنمية اتجاهات وقيم اخلاقيّة توجّه وتقود الأطفال وأبناء الشبيبة نحو اتباع أنماط سلوكيّة ترقى وتسمو بهم وتعمّق انتماءهم إلى مجتمعهم وإلى بلادهم.
إنّ ازدياد المشكلات السلوكيّة وانتشار السلوكيّات المنحرفة وغير المرغوب فيها والمآسي الّتي خلفتها ظاهرة العنف المستشرية في مجتمعنا يلزمنا مواجهة هذه الظواهر السلبية.
التربية على القيم الأخلاقيّة تؤدّي إلى تحسين المُناخ الاجتماعيّ عامّة في الحارة والبلدة وفي المدرسة خاصّة وهذا ما يؤدّي أيضًا فيما بعد إلى تحسين التحصيل العلميّ. فمن واجب الأهل والمؤسسات التربويّة والمربين والكتّاب أن يكون موضوع تنمية القيم الأخلاقيّة هو اتجاه استراتيجيّ في رؤيتهم التنمويّة للأطفال وأبناء الشبيبة.
كيف طرح الكاتب القيم الأخلاقيّة في روايته؟
1. الصراع بين الجماعات/ العشائر
رغم انعدام الأمن، وانتشار قضايا الثأر والسلب والنهب والغزو وانتشار قطاع الطرق في ذلك الوقت، فإنَّ “راشد” الّذي تسلّم منصب القيادة بعد مقتل والده “منصور الأعمى” أرسى قواعد مهمّة في الصراع بين أطراف الصراع، وهذا ما أصبح واقعًا وعُرفًا بين القبائل فيما بعد.
خاطب راشد الرجال عندما خرجوا للأخذ بثأر والده من قبيلة الدعجان موصيًا رجاله: “إيّاكم أن تقتلوا شيخًا كبيرًا، أو امرأةً، أو طفلًا، ولا تذبحوا شاةً أو بعيرًا، أو تقطعوا شجرةً، ولا تمثّلوا بجثّة أحد من عيال الدعجان”. (حكي القرايا، ص 48).
بعد أن خفتت حدّة المعركة وهدأت نفس راشد وهربت قبيلة الدعجان وزعيمها عمران ومعه عشرات الرجال والنساء رفض راشد أن يقترب أيّ من رجاله إلى النساء، فليس هو من يأخذ ثأره من النساء، ولم يكن من شِيمِهِ سبي النساء أو التعرّض لهنّ، لذا امر بتركهن وشأنهن ليذهبن مع الأطفال إلى حيث أردنَ، أو يلتحقن بمن هرب من الدعجان”. (حكي القرايا، ص 50).
يجدر بنا الإشارة إلى أنّ هذه القواعد الّتي أرساها “راشد” تتماهى مع ما أوصى به النبي محمد صلّى الله عليه وسلم.
إنّ مظاهر رحمة النبيّ، صلّى الله عليه وسلم، في سِلمه وحربه قد حفلت بها سيرته وحياته، فرحم الصغير والكبير، والمرأة والضعيف، واليتيم والفقير، والعبيد والخدم، والحيوان والجماد، بل ومن عاداه وآذاه وقاتله، قال الله تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ” (الأنبياء:107).
كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه قائلًا: (اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا فلا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليدًا) رواه البخاري.
وكذلك تتماهى مع وصيّة أبي بكر الصديق:
أوصى أبو بكر جيش أسامة فقال: يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: “لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلًا صغيرًا أو شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تعقروا نحلًا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيًرا إلّا لمأكلة……………” (الطبري: ٢/٢٤٦).
2. دعوة إلى الوحدة بين القبائل في مهاجمة العدوّ التركي:
“عسكر الجنود (جنود العدو التركي) في الجبال المقابلة للقلعة، بقصد الإرهاب وحمل السكان على الإذعان. لكنّ المعتصمين في القلعة صمّموا على الدفاع عن أنفسهم، وزادت في نفوسهم العِزّة والقوّة وهم يشاهدون انضمام البدو لهم، الّذين كانوا على خلاف وعداوات قديمة ومتجدّدة معهم، ويبدو أنَّ العدوّ التركيّ وحّد قبائل العرب، وأنساهم ما خلّفته الغزوات والحروب من ندوب في قلوبهم”. (حكي القرايا، ص 65).
“لكنَّ العزيمة والإيمان بالحريّة والتحرّر القوميّ، أسهمت بشكل كبير في رحيل المحتلّين عن المنطقة”(حكي القرايا، ص 84).
3. الدفاع عن حريّة البيت والعائلة:
“كان رجال العشائر قد قرّروا الموت بشرف على الاستسلام والمذلّة، وقد استبسل الرجال المدافعون عن حرمة قلعتهم وأعراضهم”(حكي القرايا، ص 67).
نتيجة الوحدة والعزيمة والإيمان بالحريّة والتحرّر القوميّ بيّنت أنّه “لم تعد ثمة ثارات وغزوات وحروب بين الناس، ولم يعُد الأهالي يعانون من هجمات الجماعات المسلّحة وقطّاع الطرق وشذّاذ الآفاق”(حكي القرايا، ص 85).
4. مكانة المرأة ومشاركتها في عمليّة اتخاذ القرار:
مكانة المرأة في المجتمع الأردنيّ هي من القضايا المهمّة الّتي برزت في “حكي القرايا”، في دورها المركزيّ في الأسرة والقبيلة ودائرة اتخاذ القرار: عندما أرسل إبراهيم باشا ضابطًا بهدف تسليم الثائر الفلسطينيّ الدخيل عند إبراهيم الضمور طلب مهلة من الضابط ليتشاور مع زوجته. وعندما سأل الشيوخ منصور الأعمى عن هذا الموضوع أجابهم: “والله يا جماعة الخير يقولون إنّ علياء زوجة إبراهيم رفضت رفضًا باتًا” وعندما هدّدهم الضابط بحرق ولديها “علي والسيّد” أمامها وأمام زوجها وجميع الكركيّة، قالت علياء لزوجها: “المنيّة ولا الدنيّة، كيف بدك نسلِّم الدخيل؟! وِش رح يقولو الناس عنّا، ورح نصير مضحكة للبنت وأمها”. كانت علياء صاحبة رأي سديد وشكيمة وأنفة واضحة… وقال منصور الأعمى عنها: “والله إنّها شيخة وبنت شيوخ”. (حكي القرايا، ص 28).
حالة أخرى حول مكانة المرأة كانت مع فاطمة السالم زوجة منصور الأعمى عندما قرّر الرحيل إلى خارج القلعة مع أولاده الأربعة بسبب ضيق المكان، شاور منصور الأعمى زوجته فاطمة، فأثنت على القرار مؤكّدة أنّ الغرفة وملحقاتها في القلعة لم تَعُد تكفي لهم…. اختار منصور منطقة مرتفعة مطلّة على القلعة الّتي أحبّها… وصاح ابن عمّه: يا شيخ ماذا سنسمّي هذه المنطقة؟ فأجابه منصور: والله الشور شور فاطمة” فنادى فاطمة وشاورها وسمّى المنطقة كما قالت.
من كلّ هذا نستنتج أنّ للكاتب رمضان الرواشدة رسالة واضحة في كلّ الرواية وهي تنمية المحبّة والوحدة والانتماء إلى البلد.

هوامش:
1. رواية “حكي القرايا” للكاتب رمضان الرواشدة صدرت في بيروت، عن المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، 2024.
2. أريج الطوالبة “البناء الفنيّ في روايات رمضان الرواشدة”، صدر في بيروت عن المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر.
3. العدد 12
العناوين الفرعيّة: منصور الأعمى، حلف القرايا، سطام الكركي، علياء الضمور، حصار القلعة، فاطمة السالم، مقتل منصور، صباح الدعجان، ذهب القلعة، الثورة، الرحيل إلى الكرك، الأمير في معان
يرتبط الرقم 12 برموز ودلالات معينة في الديانات الثلاث، فنقرأ في العهد القديم عن 12 سبطاً، يرتبط به وبالقضاة المذكورين في سفر القضاة عددهم 12. وفى العهد الجديد أقام الرب 12 رسولًا كما نقرأ عن 12 قفة مملوءة كِسراً فاضلة من معجزة إشباع الآلاف.
يعتبر العدد (12) من الأعداد المذكورة صراحة في القرآن الكريم، وله خصوصيّة في سورة يوسف، وكذا مع أبناء يعقوب عليه السلام، وأول ما يوقفنا في سورة يوسف أنّ ترتيبها بين سور القرآن الكريم رقم (12). في بداية السورة ذكر ضمني للعدد 12 وتحديدًا في قول الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام “إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ” (يوسف: 4).
– أبناء يعقوب عليه السلام هم: الأسباط وعددهم اثنا عشر ابنا
– العيون الّتي فجّرها موسى بعصاه اثنتا عشرة عينا “وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَر فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا” (الآية 60 سورة البقرة).
– الشهور المذكورة في القرآن اثنا عشر شهرا (الآية 36 سورة التوبة).
– القضاة الّذين اختارهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية اثنا عشر نقيبًا.
– الأئمة المعتبرين في عقيدة الشيعة عددهم اثنا عشر.
4. تضمنت الرواية جوانب تراثيّة للمنطقة:
الأهازيج الغنائيّة ص 10، 11، 12، 45، 82، 85، 86.
أمثال شعبيّة: ألله وعلي معك، الصباح رباح، المنيّة ولا الدنيّة، خير أللهم اجعله خير، ما على الرسول إلّا البلاغ، إن طويل الخصى ما جاب لإُمِه غنيمة، رد الصاع صاعين.
العادات: الدخالة (ص 27) وهي عادة حميدة وتعني إغاثة المستجير والدفاع عنه، فقد التجأ قاسم الأحمد، الدخيل الفلسطينيّ الثائر، إلى عشائر الكركيّة يطلب الحماية، بعد أن أخمد المصريون بقيادة إبراهيم باشا ثورة الفلاحين، وكان الشيخ إبراهيم الضمور مع زوجته علياء قد آوياه وأكرماه، وكانت زوجته الشيخة علياء الضمور تعتني به وتطبخ له كل يوم، يساعداها ولداها علي والسيد. وهم رفضا تسليمه للجيش، فتعرّضت قلعة الكرك لحصار وقصف عنيف من الجيش المصريّ بقيادة إبراهيم باشا، الّذي أرسل من يساوم الشيخ إبراهيم الضمور، لكنَّ الأخير رفض تسليم الدخيل، فهدّده الضابط المصريّ بحرق ولديه، على والسيد أمامه وأمام زوجته، ومع ذلك لم يتراجع الشيخ عن موقفه هو وزوجته علياء، الّتي قالت قولتها المشهورة: “المنية ولا الدنية، كيف بدك نسَلِّم الدخيل؟!”.
الفزعة: تّجّمُّع الأفراد لمناصرة الموجود في ضائقة: “بعث شيوخ معان يطلبون الفزعة من أهل القلعة والقرى المحيطة بها وقرر أبناء راشد ورجالهم مناصرة أهل معان وجيش الثورة العربيّة الكبرى”
أنواع الطعام: منسف الجريش، والمعلاق بالسمن البلديّ، وخبز الشراك، ولبن الشنينة، والبندورة المطبوخة مع بيض الدجاج البلديّ، والأكلة المذبّلة مع خبز الشراك. والقهوة السادة.
تعابير عاميّة:
مُنقع دم: القاضي المتخصّص في حلّ قضايا الدم مثل القتل العمد وغير العمد.
الكواير: الكِيرُ وهو زِقّ أَو جلد غليظ ذو حافاتٍ، وأَما المبني من الطين فهو الكُورُ. وايضًا جهاز من جلد أو نحوه يستخدمه الحدَّاد وغيره للنفخ في النار لإذكائها.
المطوح: المدينُ الدائنَ في دفع الدَّيْن: أرجأه مرَّة بعد مرَّة.
الحاشي: المرأة أو الفتاة الّتي تدخل الملعبة وهي المنطقة أمام الصف أو بين الصفّين المؤدّيين لرقصة الدحيّة في الأردنّ وفلسطين. دون أن يتعرّف عليها أحد ويكون بيدها عصا وقديمًا كانت تمسك بسيف.
صرّة: ما يُجمَع فيه الشَّيء ويُشدّ ويكون غالبًا من القماش (صرة المال) 18
وشنعمل بهالسالفة؟: كيف نتصرّف في هذه الحالة.
فكاك نشب: يلجم الشر ويطيب الخواطر،
قضيّة عويصة: قضيّة صعبة جدًا.
ودي أنام: أريد أن أنام.
حوقل: قال: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله.
بسمل: قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمانِ الرَّحِيمِ.
حلال: مَا أحَلَّهُ اللَّهُ، مَا لَيْسَ بِحَرَامٍ، جائِزٌ، مَسْمُوحٌ بِهِ. “الحلال” تعني “الغنم” لدى البدو.
حصينيات: “الحصيني” هو ثعلب الصحراء وهو نوع من أنواع الثعالب صغيرة الحجم.
الغنم الحولية والثنايا: من أنواع الغنم.
ملخّص:
قُمنا في هذه المقالة بدراسة رواية الكاتب رمضان الرواشدة “حكي القرايا”؟ حسب عاملين أساسيين: العتبات والمتن. وحاولنا اختراق النصّ لمعرفة رسالة الكاتب للمتلقي.
كتبنا عن عتبات النص: العناوين، اللّغة والأسلوب السردي، والشخصيّات، ورسالة الكاتب الرواشدة في روايته تنمية القيم الأخلاقيّة والّتي تمثلت في كيفيّة السلوك في حالات الصراع بين الجماعات/ العشائر ودعوة الرواشدة إلى الوحدة بين القبائل في مهاجمة العدو التركيّ، والدفاع عن حريّة البيت والعائلة، وإبراز مكانة المرأة ومشاركتها في عمليّة اتخاذ القرار، كما اضفنا هوامش لتساعد المتلقّي في فهم التعابير التراثيّة المختلفة.




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة عمان جو الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق :
تحديث الرمز
أكتب الرمز :