بغداد قبل الغروب
أحمد حسن الزعبي
على طريقة العشاق الصغار الذين يهربون من كليّاتهم ليقابلوا حبيباتهم سراً..كنت أتحجج بأي شيء ، بموعد مع زبون مفترض، بمراجعة طبية ، بتوقيع اتفاقية، بتحصيل ديون معدومة بأي شيء ..المهم أن أسمع أخبار بغداد...في العمل لا يوجد تلفاز ، و»الانترنت» كان محصوراً بموافقة سكرتيرتنا الهندية واستخدامه للعمل الرسمي فقط ، أما الصحف الورقية فمشغولة بمناسبات مفرطة في البذخ وخبر انسكاب الدم العربي في المحيط العربي يوازي انسكاب علبة «مانيكور» لا أكثر....
كنت قلقاً..متوتراً..طوال الأيام العشرين...فور جلوسي خلف مقود السيارة ...أقفز عن كل الأغاني والإعلانات التجارية، أحرك إبرة البحث لأسمع كلاماً مهماً عن بغداد وميناء ام قصر والرمادي...أركزّ سمعي عن «شظيّة» انتصار هنا..إسقاط مروحية للعدو هناك...عن أسر بعض الجنود العلوج..مقابلات مسجّلة معهم..وأكذوبة أبو منقاش الشهية ...كنت انتظر أي شيء من أي شيء بأي شيء .. الا السقوط!!..
عشرون يوماً...وأنا على هذا الحال..أخرج باكراً من عملي لأقابل بغداد قبل الغروب..أمضي وحيداً، ليس بيدي حيلة شأني شأن 300مليون عربي ، خائف ومرتبك ، أمشّط الطريق الطويل شرقاً، أقف على شاطئ الخليج أحياناً، أراقب السفن التي تغيب شيئاً فشيئاً في زرقة الماء...كما يغيب العصفور المحلّق في زرقة السماء..انتظر من قلب البحر معجزة...دوامة ، زوبعة غضب تولد هنا من قلب الماء ، أنا سأعطيها الإحداثيات ...سأدلّها على ريح بغداد...التي تملأ ثيابي وشعري... علّها تقلب موازين الحرب ، وتنكفئ أمامها البارجات المصفّحة، علها تبتلع الطائرات المقاتلة ذات اللون الرمادي..أشبك يدي خلف رأسي وأنادي...رباه «كل الأحزاب قد قدموا»..فمن يحفر لنا الخندق...ربّاه..من يحمل فأس سليمان لينقذنا...رباه إن بغداد بدت تغرق...
***
في التاسع من نيسان 2003..حملت أوراقي وجريدتي من مكتبي وغادرت أبكر من كل يوم ،السماء مغبرّة، السّيارات مسرعة ، الإسفلت يلمع حتى خلته يدمع ، البحر المائج يتذوّق الرمل الأصفر على مضض، لم اعرف شيئاً بعد...مررت بمطعم في طريقي ، لم أرغب في الجلوس على الطاولة كما كنت افعل .. أخذت الوجبة معي إلى غرفتي المعتمة في شقة 202، ضغطت على زر «الريموت»..بحثاً عن الأخبار ...شاهدت دبابة أمريكية على جسر دجلة..وصوت مذيع الجزيرة يتحدّث عن سقوط بغداد بحزن عميق ...بكيت بأعلى صوتي ..انكفأت على سريري الحديدي ..خبأت وجهي في الوسادة وما زلت أخبئه إلى اليوم...
على طريقة العشاق الصغار الذين يهربون من كليّاتهم ليقابلوا حبيباتهم سراً..كنت أتحجج بأي شيء ، بموعد مع زبون مفترض، بمراجعة طبية ، بتوقيع اتفاقية، بتحصيل ديون معدومة بأي شيء ..المهم أن أسمع أخبار بغداد...في العمل لا يوجد تلفاز ، و»الانترنت» كان محصوراً بموافقة سكرتيرتنا الهندية واستخدامه للعمل الرسمي فقط ، أما الصحف الورقية فمشغولة بمناسبات مفرطة في البذخ وخبر انسكاب الدم العربي في المحيط العربي يوازي انسكاب علبة «مانيكور» لا أكثر....
كنت قلقاً..متوتراً..طوال الأيام العشرين...فور جلوسي خلف مقود السيارة ...أقفز عن كل الأغاني والإعلانات التجارية، أحرك إبرة البحث لأسمع كلاماً مهماً عن بغداد وميناء ام قصر والرمادي...أركزّ سمعي عن «شظيّة» انتصار هنا..إسقاط مروحية للعدو هناك...عن أسر بعض الجنود العلوج..مقابلات مسجّلة معهم..وأكذوبة أبو منقاش الشهية ...كنت انتظر أي شيء من أي شيء بأي شيء .. الا السقوط!!..
عشرون يوماً...وأنا على هذا الحال..أخرج باكراً من عملي لأقابل بغداد قبل الغروب..أمضي وحيداً، ليس بيدي حيلة شأني شأن 300مليون عربي ، خائف ومرتبك ، أمشّط الطريق الطويل شرقاً، أقف على شاطئ الخليج أحياناً، أراقب السفن التي تغيب شيئاً فشيئاً في زرقة الماء...كما يغيب العصفور المحلّق في زرقة السماء..انتظر من قلب البحر معجزة...دوامة ، زوبعة غضب تولد هنا من قلب الماء ، أنا سأعطيها الإحداثيات ...سأدلّها على ريح بغداد...التي تملأ ثيابي وشعري... علّها تقلب موازين الحرب ، وتنكفئ أمامها البارجات المصفّحة، علها تبتلع الطائرات المقاتلة ذات اللون الرمادي..أشبك يدي خلف رأسي وأنادي...رباه «كل الأحزاب قد قدموا»..فمن يحفر لنا الخندق...ربّاه..من يحمل فأس سليمان لينقذنا...رباه إن بغداد بدت تغرق...
***
في التاسع من نيسان 2003..حملت أوراقي وجريدتي من مكتبي وغادرت أبكر من كل يوم ،السماء مغبرّة، السّيارات مسرعة ، الإسفلت يلمع حتى خلته يدمع ، البحر المائج يتذوّق الرمل الأصفر على مضض، لم اعرف شيئاً بعد...مررت بمطعم في طريقي ، لم أرغب في الجلوس على الطاولة كما كنت افعل .. أخذت الوجبة معي إلى غرفتي المعتمة في شقة 202، ضغطت على زر «الريموت»..بحثاً عن الأخبار ...شاهدت دبابة أمريكية على جسر دجلة..وصوت مذيع الجزيرة يتحدّث عن سقوط بغداد بحزن عميق ...بكيت بأعلى صوتي ..انكفأت على سريري الحديدي ..خبأت وجهي في الوسادة وما زلت أخبئه إلى اليوم...
تعليقات القراء
لا يوجد تعليقات