قراءة خطوات ما بعد الاستفتاء : رحيل زعيم وفقدان صديق
عمان جو - حمادة فراعنة
رحل جلال الطلباني أول رئيس كردي للعراق، وأهم كردي يُحب العرب، وأقرب كردي للنضال الفلسطيني، والصديق العزيز الذي نكن له المحبة والتقدير لما يتمتع به من مواصفات الود والذكاء والثقافة والفكاهة والرغبة الشديدة في الحياة بحرية له ولشعبه.
رحل الرجل المحنك الذي كان يجيد اختيار الفرص والهروب من الأزمات، والبحث عن القواسم المشتركة مع خصومه مهما بدا الوضع السائد معقداً، ولهذا كان رافعة لقضية شعبه، مخلصاً لها متفهماً بعمق عوامل الاحاطة بها، فقد أدرك فشل تجربة قيام دولة كردية في ايران، ولهذا السبب لم يكن متحمساً لدولة كردية في العراق، رغم انحيازه لها، ورغبته بها، ونضاله من أجلها، ولكن ديكتاتورية الجغرافيا المحيطة بالعداء للقومية الكردية تجعل حرية الكرد واستقلالهم عن العرب والأتراك والفرس صعباً، فاقامة دولة كردية على أي جزء من أرض الكرد فيها دمار وتقزيم واضعاف لأربع دول متصادمة مع بعضها وسرعان ما تتفق وتتحالف ضدهم لمنعهم من ولادة دولة كردية مستقلة لهم على أي جزء من أرض الكرد المقسمة بين أربع دول، بين العراق وسوريا وتركيا وايران.
لم يكن متحمساً لفكرة الاستفتاء في ظل المعطيات القائمة، وكان يسأل “ لماذا نحكم جزءاً من العراق ونحن نملك مجالاً لأن نكون شركاء في حكم كل العراق، خاصة ونحن غير قادرين على حكم جزء مستقل من أرض كردستان الكبيرة “.
جلال الطلباني كان قومياً كردياً بامتياز، ولكنه لم يكن معادياً للعرب، بل كان مؤمناً بالشراكة القومية الكردية العربية، وكان أقرب أصدقائه ومحبيه الراحل الحكيم “جورج حبش “ مؤسس حركة القوميين العرب، فكان يقول لو لم أكن كردياً لكنت عربياً مؤسساً مع جورج حبش في حركة القوميين العرب، ولم يتردد في المطالبة بالافراج عنه حينما أعتقل من سوريا، ووقف الى جانب زوجته هيلدا حبش عام 1968، وفي أول زيارة لي الى بغداد بعد أن تولى رئاسة الجمهورية سألني عن زوجة الحكيم السيدة الفاضلة هيلدا حبش وبناتها وعن أوضاعهم وظروف حياتهم وعبر عن استعداده لتغطية احتياجاتهم، بقوله “ للحكيم دين في أعناقي “ ولكن كرامة وكبرياء السيدة هيلدا كانت أكبر من كرمه ومبادرته، ورفضت بكل احترام وتقدير لشخصه أن تقبل أي مساعدة مالية تتلقاها منه، والحقيقة المبدئية والسياسية والوطنية والقومية لهذه المرأة زوجة الحكيم التي يجب أن تقال رغم تقديرها لجلال الطلباني، قالت لي “ لا تنس أنه قبل أن يكون رئيساً للعراق بعد احتلاله من الأميركيين وفي ظلهم “.
وكان الشخص الثاني الذي رغب بمعرفة ظروفه تيسير قبعة نائب رئيس المجلس الوطني الفلسطيني، وأحد قيادات حركة القوميين العرب سابقاً ومنظمة التحرير لاحقاً، وحادثه من تلفوني مطمئناً عليه وداعياً له لزيارة العراق وكردستان.
حينما سلمته رسالة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، المتضمنة رجاء العمل على معالجة أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في العراق الذين تعرضوا للبطش والمذابح والتصفيات بعد الاحتلال عام 2003، ومحاولة العمل على اخراجهم من “ حي البلديات “ المحاصر، الى خارج العراق، قال لي أمام الفلسطينيين خياران الأول أن يرحلوا الى كردستان ضيوفاً علينا، أو الى البلدان التي يرغبون الوصول اليها وهكذا سهل لي مهمتي ووفر لي غطاء الدخول الى الحي المحاصر، بهدف حصر أعدادهم وكيفية اخراجهم واستقراء خياراتهم في الانتقال الى كردستان أو بلدان أميركا اللاتينية وهكذا حصل بخطوات تدريجية أزالت عنهم خطر التصفيات بفعل قرار وتضامن وانحياز الراحل جلال الطلباني.
كان صاحب نكتة، ويقولها عن نفسه، وفي زياراتي الثلاث الى بغداد وكنت أنزل ضيفاً عليه، كان يومياً على الغداء يخترع لي نكتة على شخص رئيس الجمهورية، ويردد على مسمعي ما يقال عن جلال الطلباني، ويبرر ذلك بقوله “ حتى يتعلم العراقيون الديمقراطية عبر النكت فلا ينظرون بقدسية الى الرئيس أو الزعيم أو القائد، وكذلك حتى أقطع الطريق على خصومي السياسيين، فلا يجدون ما يقولونه عني؛ لأنني أقول النكتة القاسية عن نفسي قبل أن يقولوها عني “.
كان أول كردي يتمرد على الزعيم الراحل مصطفى البرزاني الذي كان بمثابة الأب للأكراد، فاختلف معه في حياته بسبب زعامته التقليدية غير الديمقراطية غير العصرية، لأن قبيلتيهما ومنطقتيهما متنافستين، أما خلافة الثاني مع البرزاني فيعود الى العلاقة مع الاسرائيليين فقد كان جلال الطلباني معادياً للمشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي رافضاً أي علاقة مع العدو الاسرائيلي، ومتضامناً مع قضية الشعب الفلسطيني وعدالتها، ومنحازاً لحركتها الوطنية، وبقي وفياً لتراثه وقناعاته مع الفلسطينيين، الى الحد أنه يجد العذر للفلسطينيين في علاقاتهم الوطيدة مع الرئيس الراحل صدام حسين، رغم خلافاته العميقة معه، ومع ذلك رفض التوقيع على قرار اعدامه، وقد أرخ ذلك في سجله التاريخي أنه أبى أن يُسجل عليه موافقته وتوقيعه على اعدام الرئيس الشهيد الراحل.
رحل جلال الطلباني في ذروة مأزق الكرد ووقوفهم أمام منطق حاد :
اما أن يسيروا نحو انجاز حق تقرير المصير وصولاً الى الاستقلال، أو يخسروا كثيراُ مما حققوه من مكاسب وطنية قومية وثقافية ولغوية في اطار حكم ذاتي أوسع من كامل في اقليم كردستان.
موقف وشجاعة أردنية بامتياز
لم تكن مجاملة فقط، ولم تكن صدفة غير مدروسة، ولم تقتصر على الدوافع الانسانية نحو أسرة فقدت كبيرها، بل مشاركة معروف البخيت نائب رئيس مجلس الأعيان، رئيس الوزراء السابق، ممثلاً لجلالة الملك، في تشييع جثمان الراحل جلال الطلباني، موقف سياسي بامتياز يتوسل ابقاء العلاقة والحفاظ عليها بل وتطويرها مع مكونات أهل العراق، مع الكرد كما هي مع العرب، ومع السنة كما يجب أن تكون مع الشيعة، ومع المسيحيين بالرقي نفسه مع المسلمين، تلك هي المعادلة الأردنية الواعية والمنتقاة في التعامل مع العراقيين، بمختلف مكوناتهم، لعل الأردن بعلاقاته مع الكرد ومع العرب، يؤدي دوراً سياسياً، وطنياً وقومياً، مع الأشقاء الذين يستحقون التفاعل معهم ومساعدتهم على تجاوز معاناتهم وانقساماتهم.
النجاح والفشل على أرض الواقع
وسواء نجحت خطوة الاستفتاء الأولى في كردستان العراق يوم 25 أيلول 2017، وشكلت مقدمة ضرورية نحو خطوتي حق تقرير المصير وصولاً نحو الاستقلال الناجز، أو شكلت خطوة تراجع وانكسار لتطلعات كرد العراق نحو أحلامهم الوردية، وباتوا أسرى استعجالهم بعد أن تعجلوا الخطوة الشجاعة فوقعوا في شر خياراتهم غير المدروسة بشكل كاف، وباتوا محصورين بلا صديق مقرب، وبلا رافعة محاذية، وبلا جبهة قومية أو أممية تسانده، باستثناء عدو العرب والمسلمين والمسيحيين المشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي الذي يعمل جاهداً وعلناً على تمزيق خارطتي العالم العربي، والعالم الاسلامي المحيط به ليبقى هو، وهو وحده القوي الفاعل المتحكم بسياسات العالم العربي ومصالحه وبالبلدان الاسلامية المحيطة وخاصة تركيا وايران وصولاً الى الباكستان وبلدان وسط أسيا.
سواء نجحت خطوة كردستان العراق أو تم احباطها فقد طرحت التحدي أمام طرفي الصراع :
الأول : أمام الكرد في كيفية التعايش وانتزاع الشراكة الكاملة والحضور الذي يستحقونه.
والثاني : القوميات الثلاث: العربية والكردية والفارسية المختلفة والمتعاضدة في الوقت نفسه ضد خصمهم الكردي.
التحدي يفرض على طرفي الصراع والخلاف والتصادم البحث عن وسائل تحقيق المصالح، يفرض على الكرد العمل الحثيث من أجل كسب وعي العرب والترك والفرس واختراق صفوفهم لطرح قضيتهم العادلة في مواجهة التعصب والحقد وغياب العدالة والمساواة وقيم المواطنة لدى البلدان الأربعة التي يعيشون فيها: العراق وسوريا وتركيا وايران.
والتحدي يفرض على القوميات الثلاثة التعامل مع الكرد باعتبارهم قومية منفصلة بامتياز لها حق التعبير عن نفسها بهوية ولغة مستقلتين، واحترام متبادل وشراكة حقيقية جدية تقوم على المواطنة وحُسن المعشر والمساواة وتكافؤ الفرص اذا كانت حقاً حريصة على جغرافية دولها، وأمن مواطنيها، واستقرار أنظمتها، فالمبادرة التي قامت بها حكومة اقليم كردستان العراق تعكس رغبة الكرد في التحرر من الوحدة غير المتكافئة في الوطن الواحد، مثلما تعكس تطلعاتهم القومية كشعب مستقل عن القوميات الثلاث المتحكمة المتسلطة على حياتهم في العراق وسوريا وتركيا وايران.
اسرائيل مشروع استعماري
رئيس ايران بتشبيه كردستان مثل “ اسرائيل “ وهذا عدم المعرفة بوقائع الحياة والسياسة مثلما يعكس استعمال كل الوسائل غير المشروعة بما فيها الكذب والتضليل لم يكن موفقاً بالكرد حتى لا تصل اليه ولنظامه بواعث المبادرة الكردية من العراق، فالمشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي ساق ورحّل بشراً أجانب لا صلة لهم بفلسطين وأسكنهم فيها بالتواطؤ مع الاستعمار البريطاني الذي كان مستعمراً ومتحكماً بفلسطين، وقد قبلوا الرحيل وجاءوا الى فلسطين اما هرباً من الاضطهاد الأوروبي، أو انسجاماً مع مشاريع الاستعمار الأوروبي لبلدان العالم الثالث في أسيا وافريقيا وأميركا الجنوبية، أو استجابة سياسية عقائدية لفكر الصهيونية، واحتلوا فلسطين واستعمروها، وليس هذا وحسب بل وطردوا نصف شعبها وشردوه خارج وطنه، بينما شعب كردستان يقيم على أرضه منذ الاف السنين، وأرضه تقسمت بفعل اتفاقات استعمارية بريطانية فرنسية بين البلدان الأربعة العراق وسوريا وتركيا وايران، وما حصل لهم حصل أيضاً للبلدان العربية، فقد قسموا سوريا الطبيعية بلاد الشام الى بلدان صغيرة الحجم محدودة الأمكانيات ليسهل استعمارها وأن تبقى أسيرة امكاناتها المتواضعة : الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين، وعزلوها عن العراق، وأعطوا جزءا منها لتركيا وجزءاً أخر في ايران حيث يوجد حوالي ثلاثة ملايين عربي في تركيا وما يوازيهم في ايران، ومقابل ذلك قسموا أرض الكرد وأعطوا جزءا منها لسوريا وجزءاً منها للعراق.
مقارنة خاطئة
فالمقارنة غير صائبة وليست حقيقية وليست منصفة بين المشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي وبين المشروع القومي الكردي، فهي ظُلم للكرد مثلما هي ظُلم للشعب الفلسطيني، بينما المقارنة الكردية الاسرائيلية مكسب للمشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي حيث تُوحي وكأن الاسرائيليين اليهود مارسوا حقهم في تقرير المصير على أرض فلسطين وأعلنوا وحصلوا على حقهم بالاستقلال كما تدعي الحركة الصهيونية وقادة المشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي، إنه الظلم بعينه والجهل الفاقع لمن يقول هذا التشبيه بين كردستان واسرائيل.
يجب على الكرد توضيح عدالة قضيتهم للعرب وللأتراك وللفرس، حتى ولو رفضت أنظمتهم وهي لا شك سترفض أي منطق كردي، ولكن على الشعب الكردي أن يواصل عمله ونضاله لكسب الشرائح التقدمية والديمقراطية لدى القوميات الثلاث، حيث لا خيار لهم سوى هذا العمل وهذا الفعل القائم على الاحترام المتبادل.
h.faraneh@yahoo.com
* كاتب سياسي مختص بالشؤون الفلسطينية والاسرائيلية.
عمان جو - حمادة فراعنة
رحل جلال الطلباني أول رئيس كردي للعراق، وأهم كردي يُحب العرب، وأقرب كردي للنضال الفلسطيني، والصديق العزيز الذي نكن له المحبة والتقدير لما يتمتع به من مواصفات الود والذكاء والثقافة والفكاهة والرغبة الشديدة في الحياة بحرية له ولشعبه.
رحل الرجل المحنك الذي كان يجيد اختيار الفرص والهروب من الأزمات، والبحث عن القواسم المشتركة مع خصومه مهما بدا الوضع السائد معقداً، ولهذا كان رافعة لقضية شعبه، مخلصاً لها متفهماً بعمق عوامل الاحاطة بها، فقد أدرك فشل تجربة قيام دولة كردية في ايران، ولهذا السبب لم يكن متحمساً لدولة كردية في العراق، رغم انحيازه لها، ورغبته بها، ونضاله من أجلها، ولكن ديكتاتورية الجغرافيا المحيطة بالعداء للقومية الكردية تجعل حرية الكرد واستقلالهم عن العرب والأتراك والفرس صعباً، فاقامة دولة كردية على أي جزء من أرض الكرد فيها دمار وتقزيم واضعاف لأربع دول متصادمة مع بعضها وسرعان ما تتفق وتتحالف ضدهم لمنعهم من ولادة دولة كردية مستقلة لهم على أي جزء من أرض الكرد المقسمة بين أربع دول، بين العراق وسوريا وتركيا وايران.
لم يكن متحمساً لفكرة الاستفتاء في ظل المعطيات القائمة، وكان يسأل “ لماذا نحكم جزءاً من العراق ونحن نملك مجالاً لأن نكون شركاء في حكم كل العراق، خاصة ونحن غير قادرين على حكم جزء مستقل من أرض كردستان الكبيرة “.
جلال الطلباني كان قومياً كردياً بامتياز، ولكنه لم يكن معادياً للعرب، بل كان مؤمناً بالشراكة القومية الكردية العربية، وكان أقرب أصدقائه ومحبيه الراحل الحكيم “جورج حبش “ مؤسس حركة القوميين العرب، فكان يقول لو لم أكن كردياً لكنت عربياً مؤسساً مع جورج حبش في حركة القوميين العرب، ولم يتردد في المطالبة بالافراج عنه حينما أعتقل من سوريا، ووقف الى جانب زوجته هيلدا حبش عام 1968، وفي أول زيارة لي الى بغداد بعد أن تولى رئاسة الجمهورية سألني عن زوجة الحكيم السيدة الفاضلة هيلدا حبش وبناتها وعن أوضاعهم وظروف حياتهم وعبر عن استعداده لتغطية احتياجاتهم، بقوله “ للحكيم دين في أعناقي “ ولكن كرامة وكبرياء السيدة هيلدا كانت أكبر من كرمه ومبادرته، ورفضت بكل احترام وتقدير لشخصه أن تقبل أي مساعدة مالية تتلقاها منه، والحقيقة المبدئية والسياسية والوطنية والقومية لهذه المرأة زوجة الحكيم التي يجب أن تقال رغم تقديرها لجلال الطلباني، قالت لي “ لا تنس أنه قبل أن يكون رئيساً للعراق بعد احتلاله من الأميركيين وفي ظلهم “.
وكان الشخص الثاني الذي رغب بمعرفة ظروفه تيسير قبعة نائب رئيس المجلس الوطني الفلسطيني، وأحد قيادات حركة القوميين العرب سابقاً ومنظمة التحرير لاحقاً، وحادثه من تلفوني مطمئناً عليه وداعياً له لزيارة العراق وكردستان.
حينما سلمته رسالة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، المتضمنة رجاء العمل على معالجة أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في العراق الذين تعرضوا للبطش والمذابح والتصفيات بعد الاحتلال عام 2003، ومحاولة العمل على اخراجهم من “ حي البلديات “ المحاصر، الى خارج العراق، قال لي أمام الفلسطينيين خياران الأول أن يرحلوا الى كردستان ضيوفاً علينا، أو الى البلدان التي يرغبون الوصول اليها وهكذا سهل لي مهمتي ووفر لي غطاء الدخول الى الحي المحاصر، بهدف حصر أعدادهم وكيفية اخراجهم واستقراء خياراتهم في الانتقال الى كردستان أو بلدان أميركا اللاتينية وهكذا حصل بخطوات تدريجية أزالت عنهم خطر التصفيات بفعل قرار وتضامن وانحياز الراحل جلال الطلباني.
كان صاحب نكتة، ويقولها عن نفسه، وفي زياراتي الثلاث الى بغداد وكنت أنزل ضيفاً عليه، كان يومياً على الغداء يخترع لي نكتة على شخص رئيس الجمهورية، ويردد على مسمعي ما يقال عن جلال الطلباني، ويبرر ذلك بقوله “ حتى يتعلم العراقيون الديمقراطية عبر النكت فلا ينظرون بقدسية الى الرئيس أو الزعيم أو القائد، وكذلك حتى أقطع الطريق على خصومي السياسيين، فلا يجدون ما يقولونه عني؛ لأنني أقول النكتة القاسية عن نفسي قبل أن يقولوها عني “.
كان أول كردي يتمرد على الزعيم الراحل مصطفى البرزاني الذي كان بمثابة الأب للأكراد، فاختلف معه في حياته بسبب زعامته التقليدية غير الديمقراطية غير العصرية، لأن قبيلتيهما ومنطقتيهما متنافستين، أما خلافة الثاني مع البرزاني فيعود الى العلاقة مع الاسرائيليين فقد كان جلال الطلباني معادياً للمشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي رافضاً أي علاقة مع العدو الاسرائيلي، ومتضامناً مع قضية الشعب الفلسطيني وعدالتها، ومنحازاً لحركتها الوطنية، وبقي وفياً لتراثه وقناعاته مع الفلسطينيين، الى الحد أنه يجد العذر للفلسطينيين في علاقاتهم الوطيدة مع الرئيس الراحل صدام حسين، رغم خلافاته العميقة معه، ومع ذلك رفض التوقيع على قرار اعدامه، وقد أرخ ذلك في سجله التاريخي أنه أبى أن يُسجل عليه موافقته وتوقيعه على اعدام الرئيس الشهيد الراحل.
رحل جلال الطلباني في ذروة مأزق الكرد ووقوفهم أمام منطق حاد :
اما أن يسيروا نحو انجاز حق تقرير المصير وصولاً الى الاستقلال، أو يخسروا كثيراُ مما حققوه من مكاسب وطنية قومية وثقافية ولغوية في اطار حكم ذاتي أوسع من كامل في اقليم كردستان.
موقف وشجاعة أردنية بامتياز
لم تكن مجاملة فقط، ولم تكن صدفة غير مدروسة، ولم تقتصر على الدوافع الانسانية نحو أسرة فقدت كبيرها، بل مشاركة معروف البخيت نائب رئيس مجلس الأعيان، رئيس الوزراء السابق، ممثلاً لجلالة الملك، في تشييع جثمان الراحل جلال الطلباني، موقف سياسي بامتياز يتوسل ابقاء العلاقة والحفاظ عليها بل وتطويرها مع مكونات أهل العراق، مع الكرد كما هي مع العرب، ومع السنة كما يجب أن تكون مع الشيعة، ومع المسيحيين بالرقي نفسه مع المسلمين، تلك هي المعادلة الأردنية الواعية والمنتقاة في التعامل مع العراقيين، بمختلف مكوناتهم، لعل الأردن بعلاقاته مع الكرد ومع العرب، يؤدي دوراً سياسياً، وطنياً وقومياً، مع الأشقاء الذين يستحقون التفاعل معهم ومساعدتهم على تجاوز معاناتهم وانقساماتهم.
النجاح والفشل على أرض الواقع
وسواء نجحت خطوة الاستفتاء الأولى في كردستان العراق يوم 25 أيلول 2017، وشكلت مقدمة ضرورية نحو خطوتي حق تقرير المصير وصولاً نحو الاستقلال الناجز، أو شكلت خطوة تراجع وانكسار لتطلعات كرد العراق نحو أحلامهم الوردية، وباتوا أسرى استعجالهم بعد أن تعجلوا الخطوة الشجاعة فوقعوا في شر خياراتهم غير المدروسة بشكل كاف، وباتوا محصورين بلا صديق مقرب، وبلا رافعة محاذية، وبلا جبهة قومية أو أممية تسانده، باستثناء عدو العرب والمسلمين والمسيحيين المشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي الذي يعمل جاهداً وعلناً على تمزيق خارطتي العالم العربي، والعالم الاسلامي المحيط به ليبقى هو، وهو وحده القوي الفاعل المتحكم بسياسات العالم العربي ومصالحه وبالبلدان الاسلامية المحيطة وخاصة تركيا وايران وصولاً الى الباكستان وبلدان وسط أسيا.
سواء نجحت خطوة كردستان العراق أو تم احباطها فقد طرحت التحدي أمام طرفي الصراع :
الأول : أمام الكرد في كيفية التعايش وانتزاع الشراكة الكاملة والحضور الذي يستحقونه.
والثاني : القوميات الثلاث: العربية والكردية والفارسية المختلفة والمتعاضدة في الوقت نفسه ضد خصمهم الكردي.
التحدي يفرض على طرفي الصراع والخلاف والتصادم البحث عن وسائل تحقيق المصالح، يفرض على الكرد العمل الحثيث من أجل كسب وعي العرب والترك والفرس واختراق صفوفهم لطرح قضيتهم العادلة في مواجهة التعصب والحقد وغياب العدالة والمساواة وقيم المواطنة لدى البلدان الأربعة التي يعيشون فيها: العراق وسوريا وتركيا وايران.
والتحدي يفرض على القوميات الثلاثة التعامل مع الكرد باعتبارهم قومية منفصلة بامتياز لها حق التعبير عن نفسها بهوية ولغة مستقلتين، واحترام متبادل وشراكة حقيقية جدية تقوم على المواطنة وحُسن المعشر والمساواة وتكافؤ الفرص اذا كانت حقاً حريصة على جغرافية دولها، وأمن مواطنيها، واستقرار أنظمتها، فالمبادرة التي قامت بها حكومة اقليم كردستان العراق تعكس رغبة الكرد في التحرر من الوحدة غير المتكافئة في الوطن الواحد، مثلما تعكس تطلعاتهم القومية كشعب مستقل عن القوميات الثلاث المتحكمة المتسلطة على حياتهم في العراق وسوريا وتركيا وايران.
اسرائيل مشروع استعماري
رئيس ايران بتشبيه كردستان مثل “ اسرائيل “ وهذا عدم المعرفة بوقائع الحياة والسياسة مثلما يعكس استعمال كل الوسائل غير المشروعة بما فيها الكذب والتضليل لم يكن موفقاً بالكرد حتى لا تصل اليه ولنظامه بواعث المبادرة الكردية من العراق، فالمشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي ساق ورحّل بشراً أجانب لا صلة لهم بفلسطين وأسكنهم فيها بالتواطؤ مع الاستعمار البريطاني الذي كان مستعمراً ومتحكماً بفلسطين، وقد قبلوا الرحيل وجاءوا الى فلسطين اما هرباً من الاضطهاد الأوروبي، أو انسجاماً مع مشاريع الاستعمار الأوروبي لبلدان العالم الثالث في أسيا وافريقيا وأميركا الجنوبية، أو استجابة سياسية عقائدية لفكر الصهيونية، واحتلوا فلسطين واستعمروها، وليس هذا وحسب بل وطردوا نصف شعبها وشردوه خارج وطنه، بينما شعب كردستان يقيم على أرضه منذ الاف السنين، وأرضه تقسمت بفعل اتفاقات استعمارية بريطانية فرنسية بين البلدان الأربعة العراق وسوريا وتركيا وايران، وما حصل لهم حصل أيضاً للبلدان العربية، فقد قسموا سوريا الطبيعية بلاد الشام الى بلدان صغيرة الحجم محدودة الأمكانيات ليسهل استعمارها وأن تبقى أسيرة امكاناتها المتواضعة : الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين، وعزلوها عن العراق، وأعطوا جزءا منها لتركيا وجزءاً أخر في ايران حيث يوجد حوالي ثلاثة ملايين عربي في تركيا وما يوازيهم في ايران، ومقابل ذلك قسموا أرض الكرد وأعطوا جزءا منها لسوريا وجزءاً منها للعراق.
مقارنة خاطئة
فالمقارنة غير صائبة وليست حقيقية وليست منصفة بين المشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي وبين المشروع القومي الكردي، فهي ظُلم للكرد مثلما هي ظُلم للشعب الفلسطيني، بينما المقارنة الكردية الاسرائيلية مكسب للمشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي حيث تُوحي وكأن الاسرائيليين اليهود مارسوا حقهم في تقرير المصير على أرض فلسطين وأعلنوا وحصلوا على حقهم بالاستقلال كما تدعي الحركة الصهيونية وقادة المشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي، إنه الظلم بعينه والجهل الفاقع لمن يقول هذا التشبيه بين كردستان واسرائيل.
يجب على الكرد توضيح عدالة قضيتهم للعرب وللأتراك وللفرس، حتى ولو رفضت أنظمتهم وهي لا شك سترفض أي منطق كردي، ولكن على الشعب الكردي أن يواصل عمله ونضاله لكسب الشرائح التقدمية والديمقراطية لدى القوميات الثلاث، حيث لا خيار لهم سوى هذا العمل وهذا الفعل القائم على الاحترام المتبادل.
h.faraneh@yahoo.com
* كاتب سياسي مختص بالشؤون الفلسطينية والاسرائيلية.