تلطيف التدين
جميل النمري
في مركز الدراسات الإسلامية في جامعة لوفان الكاثوليكية التي تأسست قبل ستة قرون، وتعدّ من أعرق الجامعات على مستوى أوروبا والعالم، التقى جلالة الملك عبدالله الثاني، بحضور ملك وملكة بلجيكا، نخبة من الأكاديميين والباحثين والطلبة. المهمّة ليست سهلة وفي الخلفية الهجوم الانتحاري المروع الذي ضرب مطار العاصمة البلجيكية. لكن جلالة الملك خير من يقدم الموقف برؤية واضحة وصريحة وذات مصداقية، للتمييز بين الإسلام والإرهاب، كما بين الإرهابيين والمسلمين عموما. وبالمناسبة، قال جلالته إنه يود أن يدق ناقوس الخطر حول مخاطر التوتر بين المسلمين وغير المسلمين.
ونعرف أنه حتى لو جاملَنا الخطاب الرسمي الغربي بالتمييز بين جماعات التطرف والإرهاب وبين عموم المسلمين، فإن ما يتسلل إلى وعي الرأي العام مع كل عملية دموية جديدة، ومع استمرار القتل الوحشي في سورية والعراق وغيرهما، هو هذه الصورة عن الإسلام والمسلمين؛ التطرف والغلو والتعصب الديني وتمجيد القتل. وتحذير جلالة الملك يذهب بالضبط نحو مواجهة الاستراتيجية الكلية لمجمل الجماعات التكفيرية، والتي تهدف هي نفسها إلى جعل التطرف والإرهاب والإسلام والمسلمين في سلة واحدة وقضية واحدة أمام الغرب وغير المسلمين عموما؛ أي أن تكون الحال هي صراع كونيّ مفتوح بين فسطاطين، فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر، وبين ملتين: المسلمين وغير المسلمين. وبهذا ينبه الملك إلى خطر أن يلعب العالم لعبة المتطرفين، ويصب الحَبّ في طاحونتهم، بقبول أن الإسلام هو ما يمثله المتطرفون ومن لفّ لفهم.
لا شك أن جلالة الملك يبذل في هذا المضمار جهدا استثنائيا، ويملك مصداقية مميزة أمام الغرب. لكن هذا الجهد يحتاج، ونحن نتحدث عن دحر استراتيجية التطرف بفرز العالم إلى فسطاطين، إلى حالة شعبية عامّة تنبذ هذه الفكرة بانقسام البشرية إلى مسلمين وغير مسلمين في حالة صراع أبدي.
في الحقيقة، لا يفتقر المتطرفون إلى ما يدعم موقفهم ورؤيتهم من مصادر الخطاب الديني في الأدبيات القديمة أو الجديدة، وحتى من المصادر الأساسية حين تُنزع من سياقها. وهم لا يحتاجون إلى جهد كبير وتنظير مختلق على يدهم؛ فالخطاب السلفي إجمالا مهّد ويمهد الطريق واسعة لهم. وعندما نتعجب من قدرة تنظيم "داعش" المذهلة على تجنيد الآلاف في صفوفه، علينا تذكر أن ملايين العقول قد خضعت من قبل لخطاب قريب كان سائدا، تفصله خطوة عن الخطاب الداعشي، هي تحويل الفكر إلى عمل، واستخدام السلاح بدل الحديث عنه فقط؛ إنها المسافة الفاصلة مثلا بين السلفية والسلفية الجهادية.
الشعوب عندنا تعتبر من أكثر الشعوب تدينا وفق مسوحات أجريت في القارات الخمس. وموجة التدين المعاصرة التي يمكن التأريخ لها من الثورة الإيرانية، اتسمت بالتسييس والتوجيه الأيديولوجي السياسي الذي قامت الأنطمة بمجاراته وتجييره للمحافظة على سلطتها، من دون أن تتحسب للنتائج الوخيمة اللاحقة لهذا النوع من التدين. وبوعي أو بغير وعي، فإن آلافا من الدعاة ورجال الدين تحولوا إلى جنود لهذا الخطاب الذي حفر عميقا في وعي ووجدان أجيال كاملة.
الثقافة العامّة المتسمة بالتدين لم تكن تسمح بالانتباه إلى المحتوى الخطير الكامن في الخطاب، ما دام يستند إلى الدين، ويغار على الدين، ويثير الحمية من أجل الدين. لكن لو جرى تطبيقه حرفيا في زمننا، لجعلنا في حالة حرب دائمة مع العالم، وهو شيء مستحيل لأي نظام وأي دولة في زمننا، وهو ما جعل الواقع الشعبي والرسمي مأزوما من حيث الهوة الواسعة بين الخطاب الدعوي النظري وبين الواقع، لكن الجماعات المتطرفة جاءت لتضعه ببساطة قيد التطبيق!
القضية اليوم، من وجهة نظري، هي تلطيف التدين إجمالا، وتخفيفه من أحماله العقائدية، لكنّ لهذا حديثا آخر، وقد انتهت مساحة المقال.
في مركز الدراسات الإسلامية في جامعة لوفان الكاثوليكية التي تأسست قبل ستة قرون، وتعدّ من أعرق الجامعات على مستوى أوروبا والعالم، التقى جلالة الملك عبدالله الثاني، بحضور ملك وملكة بلجيكا، نخبة من الأكاديميين والباحثين والطلبة. المهمّة ليست سهلة وفي الخلفية الهجوم الانتحاري المروع الذي ضرب مطار العاصمة البلجيكية. لكن جلالة الملك خير من يقدم الموقف برؤية واضحة وصريحة وذات مصداقية، للتمييز بين الإسلام والإرهاب، كما بين الإرهابيين والمسلمين عموما. وبالمناسبة، قال جلالته إنه يود أن يدق ناقوس الخطر حول مخاطر التوتر بين المسلمين وغير المسلمين.
ونعرف أنه حتى لو جاملَنا الخطاب الرسمي الغربي بالتمييز بين جماعات التطرف والإرهاب وبين عموم المسلمين، فإن ما يتسلل إلى وعي الرأي العام مع كل عملية دموية جديدة، ومع استمرار القتل الوحشي في سورية والعراق وغيرهما، هو هذه الصورة عن الإسلام والمسلمين؛ التطرف والغلو والتعصب الديني وتمجيد القتل. وتحذير جلالة الملك يذهب بالضبط نحو مواجهة الاستراتيجية الكلية لمجمل الجماعات التكفيرية، والتي تهدف هي نفسها إلى جعل التطرف والإرهاب والإسلام والمسلمين في سلة واحدة وقضية واحدة أمام الغرب وغير المسلمين عموما؛ أي أن تكون الحال هي صراع كونيّ مفتوح بين فسطاطين، فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر، وبين ملتين: المسلمين وغير المسلمين. وبهذا ينبه الملك إلى خطر أن يلعب العالم لعبة المتطرفين، ويصب الحَبّ في طاحونتهم، بقبول أن الإسلام هو ما يمثله المتطرفون ومن لفّ لفهم.
لا شك أن جلالة الملك يبذل في هذا المضمار جهدا استثنائيا، ويملك مصداقية مميزة أمام الغرب. لكن هذا الجهد يحتاج، ونحن نتحدث عن دحر استراتيجية التطرف بفرز العالم إلى فسطاطين، إلى حالة شعبية عامّة تنبذ هذه الفكرة بانقسام البشرية إلى مسلمين وغير مسلمين في حالة صراع أبدي.
في الحقيقة، لا يفتقر المتطرفون إلى ما يدعم موقفهم ورؤيتهم من مصادر الخطاب الديني في الأدبيات القديمة أو الجديدة، وحتى من المصادر الأساسية حين تُنزع من سياقها. وهم لا يحتاجون إلى جهد كبير وتنظير مختلق على يدهم؛ فالخطاب السلفي إجمالا مهّد ويمهد الطريق واسعة لهم. وعندما نتعجب من قدرة تنظيم "داعش" المذهلة على تجنيد الآلاف في صفوفه، علينا تذكر أن ملايين العقول قد خضعت من قبل لخطاب قريب كان سائدا، تفصله خطوة عن الخطاب الداعشي، هي تحويل الفكر إلى عمل، واستخدام السلاح بدل الحديث عنه فقط؛ إنها المسافة الفاصلة مثلا بين السلفية والسلفية الجهادية.
الشعوب عندنا تعتبر من أكثر الشعوب تدينا وفق مسوحات أجريت في القارات الخمس. وموجة التدين المعاصرة التي يمكن التأريخ لها من الثورة الإيرانية، اتسمت بالتسييس والتوجيه الأيديولوجي السياسي الذي قامت الأنطمة بمجاراته وتجييره للمحافظة على سلطتها، من دون أن تتحسب للنتائج الوخيمة اللاحقة لهذا النوع من التدين. وبوعي أو بغير وعي، فإن آلافا من الدعاة ورجال الدين تحولوا إلى جنود لهذا الخطاب الذي حفر عميقا في وعي ووجدان أجيال كاملة.
الثقافة العامّة المتسمة بالتدين لم تكن تسمح بالانتباه إلى المحتوى الخطير الكامن في الخطاب، ما دام يستند إلى الدين، ويغار على الدين، ويثير الحمية من أجل الدين. لكن لو جرى تطبيقه حرفيا في زمننا، لجعلنا في حالة حرب دائمة مع العالم، وهو شيء مستحيل لأي نظام وأي دولة في زمننا، وهو ما جعل الواقع الشعبي والرسمي مأزوما من حيث الهوة الواسعة بين الخطاب الدعوي النظري وبين الواقع، لكن الجماعات المتطرفة جاءت لتضعه ببساطة قيد التطبيق!
القضية اليوم، من وجهة نظري، هي تلطيف التدين إجمالا، وتخفيفه من أحماله العقائدية، لكنّ لهذا حديثا آخر، وقد انتهت مساحة المقال.
تعليقات القراء
لا يوجد تعليقات