الشريف حسين والعثمانيون والترك .. جدلية الحب والكراهية
عمان جو-
اكدت (دراسة مراجعة) في الوثائق العثمانية ان الشريف حسين بن علي ظل مخلصا للدولة العثمانية وخصوصا للسلطانين عبدالحميد الثاني ومحمد الخامس، حتى افسدت علاقاتهم جمعية الاتحاد والترقي.
وذكر استاذ التاريخ الحديث والمعاصر في الجامعة اللبنانية الدكتور خالد الجندي في دراسته الموسومة "الشريف حسين بين سلاطين آل عثمان وجمعية الاتحاد والترقي"، ان السلطان عبدالحميد اصدر فرمانا بتولي الشريف حسين لمنصب الشرافة فورا بعد وفاة الشريف عبدالاله استجابة لمذكرة رفعها الحسين الى الصدر الاعظم بوصفه اكبر افراد العائلة الهاشمية سنا، واحقيته بمقام آبائه، مبرهنا على ذلك بالقول "ولو كان على علاقة جيدة مع الاتحاديين لكان رفع المذكرة اليهم باعتبار انه كان لهم كلمة الفصل بتعيين الولاة ولهم اليد الطولى في الدولة".
وتشير الدراسة الى ان السلطان عبدالحميد اعطى الشريف قصرا خاصا على مضيق البسفور عندما استدعي الى استنبول، واكرم وفادته وعينه عضوا بمجلس شورى الدولة برتبة وزير.
وتظهر الدراسة ان اعضاء جمعية الاتحاد والترقي كانوا عازمين على إسناد منصب الشرافة للشريف علي حيدر لولا المعارضة الشديدة لكل من السلطان عبدالحميد والصدر الاعظم، كما اظهروا الغضب لتنصيبه.
وتشير الى ان السلطان عبد الحميد اوضح للشريف حسين مقاومة الاتحاديين له في اقراره للمنصب الجديد بقوله: "اسأل الله ان يجازي من حال بيني وبين الاستفادة من مواهبك الهاشمية، وانني لست بالأمين على الدولة والملك من هذه الفئة المتقلبة"، في اشارة الى جمعية الاتحاد والترقي.
وقد بادله الشريف حسين بالاستعداد لما يكفل حماية (السلطان)، بل تعهد له في اعتبار الحجاز اول من يدافع عنه قائلا: "متى شعرتم جلالتكم بذلك فأول بلد من بلاد العرب تقوم بالواجب المفروض هو الحجاز"، فشكره السلطان وقلده وسام الافتخار.
وتلفت الدراسة الى الموقف المتعاطف بين الصدر الأعظم كامل باشا والشريف حسين عند توديعه للأخير، فقد سلمه مذكرة اكد فيها صلاحياته في الامارة دون الاكتراث بالدستور الجديد، اشارة الى دستور 1908 وانقلاب جمعية الاتحاد والترقي.
وصل الحسين - كما تشير الدراسة الى جدة في الثالث من كانون الثاني 1908 ليلقى استقبالا شعبيا حاشدا- وعند توجهه الى مكة طلب الشريف من استنبول تزويده بأوسمة غير منقوشة ليكافئ بها من يجده جديرا بالمكافأة بين شيوخ القبائل المختلفة ،واجيب طلبه على الفور حيث طلب منه تزويد الباب العالي بأسماء الحاصلين على الأوسمة في وقت لاحق.
وتشير الدراسة الى ان الوفد الذي انتدبه حزب الاتحاد والترقي للسلام على الشريف حسين حال وصوله الى مكة لم يكن راضيا عن خطاب الشريف حسين الذي القاه امامهم واثار لديهم الاستياء والشك والريبة، الامر الذي دفعهم الى الابراق الى مسؤوليهم في العاصمة العثمانية يقولون فيها "بعث عبدالحميد برجل جلس على مقام اسلافه لا يعبأ بأحد ولا يقر بدستور ولا يتجدد"، فكان هذا ايذانا ببداية الخلاف العلني بين الشريف حسين وجمعية الاتحاد والترقي الامر الذي دفعهم الى عداوة الشريف من جهة، وتصميمهم مهما كلف الامر على تطبيق سياستهم المركزية على الحجاز.
وتشير الدراسة الى تدهور العلاقات بين الشريف حسين وحزب الاتحاد والترقي ومعارضته لسياساتهم خصوصا المركزية التي اعتمدوها في جميع الولايات العربية والتي هدف الاتحاديون الى تطبيقها في الحجاز.
يقول الدكتور خالد الجندي، ان الشريف حسين بدأ عمله بوضع حد لتدخل اتحاديي مكة وانصارهم في شؤون الحكومة، فشكوا منه وضجوا من اعماله وتصرفاته ورموه بحب الاستبداد والسيطرة، وشنوا عليه حملة مسعورة في الصحف، عندئذ رأت جمعية الاتحاد والترقي استغلال مناسبة الحج لمهاجمة الشريف حسين عن طريق أمير الحج عبدالرحمن باشا اليوسف الذي اعلن عام 1909 ان الطريق البري للحج بين المدينة المنورة ودمشق غير آمن (طبعا بايعاز من الاتحاد والترقي)، لذا يرى الرجوع بمحمل الشام بطريق البحر من جدة الى سواحل الشام.
وعارض الشريف حسين تنفيذ هذا الاقتراح لأن معناه عجزه عن حماية الامن وتوطيده داخل الحجاز، (وخصوصا انه كان الامتحان الاول للشريف)، فأسرع الشريف حسين الى انتداب اخيه وابنه لايصال موكب الحجيج من مكة الى المدينة المنورة فدمشق، فأعطى الشريف بذلك برهانا واضحا على كفايته وسيطرته على القبائل، وبذلك اثبت انه جدير بمنصب الشرافة.
وتابع القول، اخذ الاتحاديون يضيقون على الشريف حسين اكثر فأكثر، ونظرا لأن مكانة مكة تعتمد بشكل اساسي على ضمان امن الحج، فإن الاتحاديين ركزوا على ذلك وعملوا على فصل المدينة المنورة عن ولاية الحجاز، ويتضح بموجب هذا الفعل ان امير مكة المكرمة (الشريف حسين) اصبح مسؤولا عن الحجيج في مكة المكرمة أما زيارة الحجيج لقبر رسول الله صلى عليه وسلم فقد اصبحت من صلاحيات الحكومة، وهذه سابقة خطيرة.
وأظهرت جماعة الاتحاد والترقي في الحجاز مرة اخرى معارضتها لأمير مكة المكرمة الشريف حسين وذلك عندما انتخب الامير عبدالله والشيخ حسن الشيبة او الشيبي بصفتهما نائبين عن مكة في البرلمان العثماني، فقد رفعت هذه الجماعة برقيات الى البرلمان استنكرت فيه انتخابهما ولكن ذلك لم يغير من نتيجة الانتخابات .
بعد وصول الوالي فؤاد باشا عام 1909 للحجاز، أصبح الصراع مريرا بين الطرفين حيث اتهم الوالي اقرباء الشريف حسين بتدبيرهم ثورة ضد الحكومة، الامر الذي دفع بالشريف الى استنكار هذا الحادث، وفي نهاية العام نفسه ضاق الحسين ذرعا بتصرفات الوالي واصبح لا يطيقه، الامر الذي دفعه الى ارسال شكوى للحكومة تم بموجبها عزل الوالي.
وتشير الدراسة الى استنجاد الدولة العثمانية بالشريف حسين ضد الشيخ محمد الادريسي امير منطقة عسير بسبب اعلانه انفصال اقليم عسير عن الدولة العثمانية، وقد حققت الحملة التي قادها الحسين في بدايتها بعض النجاحات الا ان الظروف الطبيعية حالت بينه وبين القضاء على ثورة الادريسي، وبذلك اثبت الشريف حسين ولاءه للدولة العثمانية.
وتظهر الوثائق ان جمعية الاتحاد والترقي اخذت تخطط لإزالة الشريف حسين على اعتبار ان الاخير كان يخطط للثورة، وكانت هذه الاخبار كلها ملفقة وخصوصا من الصحف الاوروبية ودولها التي كانت تعمل ليل نهار لبث الفتنة بين الشريف حسين والدولة العثمانية، فنجد في احدى الوثائق ما يلي: "ارسلت السفارة العثمانية بأثينا الى نظارة الخارجية، تفيد ان احدى الصحف المجرية قد نشرت خبرا مفاده ان الشريف حسين وبعض العرب بمكة وجدة اعلنوا العصيان ضد الدولة العثمانية ويزمعون على استقلالهم". وفي نفس الوثيقة ايضا وردت برقية اخرى من سفارة الدولة العثمانية ببوخارست وهي باللغة الفرنسية وتذكر الوثيقة: "ان احدى الصحف ذكرت ان شريف مكة أعلن عصيانه، وقد التف حوله عدد هام من أهالي جدة وهم ينوون اعلان استقلالهم".
وتعيد الدراسة اسباب تدخل بريطانيا في الحجاز - استنادا الى الوثائق العثمانية - الى أن بريطانيا وعلى أثر فشلها بمد نفوذها إلى العراق، اصبحت تبحث عن تعويض في منطقة الحجاز، وكانت السلطات العثمانية تؤكد ان البقاع المقدسة هي موطن الانبياء والرسل وأنها منطقة تابعة للمسلمين وستظل.
ويقول الجندي ان شكوك جمعية الاتحاد والترقي حول نوايا الشريف إعلان العصيان على الدولة العثمانية والاستقلال، تسارعت خصوصا في الاجتماع الذي انعقد بين الامير عبدالله واللورد كنشنر المقيم في القاهرة عام 1913 وتأكيدات تخمينات الصحافة الاوروبية والعثمانية، إذ اصبح واضحا أن المسؤولين العثمانيين الكبار متأكدون بأن الشريف حسين بدأ بالتقرب للبريطانيين من اجل المساعدة، ولا شك ان هذه التقارير تبدو أنها قائمة على الشائعات والشكوك.
وعندما شعر الاتحاديون بازدياد نفوذ الشريف حسين، وعلو مكانته وقوة شخصيته، وصعوبة انقياده وعدم تردده في مناقشة الحكومة، والتعبير عن آرائه في القضايا التي تهم الدولة العثمانية عامة والحجاز خاصة - يتابع الجندي- "توجسوا منه خيفة وقرروا التخلص منه والقضاء على استقلال الحجاز النوعي، واصروا على تطبيق قانون الولايات الجديد لعام 1913".
ولفت الى ان الاتحاديين اتبعوا سياسة اكثر تشددا مع الولايات العربية، وكان لبلاد الحجاز نصيب منها. ان هذا الاتجاه الجديد قد وضع بعد انتهاء حربي البلقان الاولى والثانية 1912-1913. فقد بنى الاتحاديون سياسة طورانية اكثر تشددا مع الولايات المتحدة العربية، حيث كان الظهور الاول لليقظة القومية الطورانية بين المثقفين الاتراك، عبارة عن روح ثورية ضد فكرة الجامعة العثمانية، فقد انتقد ادباء الطورانية الجامعة الاسلامية واعتبروها تنقص من حقوق الاتراك. وتبنى فكرة القومية الطورانية في تركيا جمعية الاتحاد والترقي، ومن المعروف، ان هذه الجمعية نشأت وترعرت في احضان اليهود في سالونيك. وقد اكدت ذلك الوثائق البريطانية.
شهد نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين نشاطا قوميا مكثفا. فالقوميون الجدد ينادون بسيادة العرق التركي على باقي الاعراق، بل انهم يجاهرون باحتقار الاعراق الباقية، منتهجين سياسة تتريك الشعوب غير التركية. ولم يكتم كثير من زعماء هذه الحركة حقدهم على بقية القوميات وكرههم لهم، وقد صرح وزير المالية، جاويد بك، فوصف العرب "بالعرق الاسود".
وعملت الاتحاد والترقي على طرد العرب من الوظائف الكبرى التي شغلوها ايام عبدالحميد الثاني، فلم يبق في وزارة الخارجية من العرب سوى موظف واحد، بينما كان السلطان يعمل على تقريب العرب وزعمائهم، وبعد ذلك بدأت صحفهم تشن الحملات المسعورة ليس على العرب الذين كانوا مقربين من السلطان عبدالحميد بل على كل عربي بحيث قرنت اسم العرب بكلمة "بيس" أي قذر وقالت "بيس عرب" ما اثار سخط العرب عموما. وتؤكد الدراسة ان جمعية الاتحاد والترقي بعد تسلمها السلطة بدأت سياسة اكثر تشددا تجاه الاقليات الدينية والعرقية بهدف سحق العناصر غير التركية.
وعن السياسة التي انتهجتها الاتحاد والترقي تجاه الشعوب غير التركية كتب السفير البريطاني في استنبول، الى وزير الخارجية ادوارد غراي في 6 ايلول 1910 يقول "اتشرف بان اطلع سعادتكم اني تلقيت سرا ومن مصدر لا يرقى اليه الشك خلاصة خطاب، القاه طلعت بك في سلانيك على اعضاء جمعية الاتحاد والترقي... وعليه لا يمكن ان يكون هناك مساواة بين المواطنين، ما لم تفلح اولا في تتريك سكان الامبراطورية وهو عمل شاق وطويل المدى، واني لأجرؤ على التنبؤ بأننا سننجح في نهاية الامر وذلك بعد القضاء قضاء مبرما على كل حركة ثورية".
وفي نفس الرسالة يتابع السفير "لقد بدأ منذ زمن بعيد ان جمعية الاتحاد والترقي قد عدلت نهائيا عن فكرة تتريك جميع الشعوب غير التركية بالطرق الدستورية، وعدلت كذلك عن الاساليب الودية لاستمالتها وكسب عطفها وودها، ويبدو كذلك ان العثمنة في نظرها تعني التركية اي جعلها اتراكا، وان سياستها في تتريك السلطنة تعني سحق العناصر غير التركية بمطرقة تركية.
ادت سياسة التتريك التي اتبعتها جمعية الاتحاد والترقي تجاه الشعوب غير التركية الى استنكار واسع في جميع الولايات وخصوصا العربية منها، وعمقت الهوة بين الشريف حسين والجمعية، اذا اتجهت نية انور باشا وزير البحرية وجمال باشا وهما من اقطاب الاتحاديين الى الغاء نظام الشرافة بهدف التخلص من قوة عربية لها نفوذ ديني وادبي كبير في جميع ارجاء العالم الاسلامي.
ومن نهاية عام 1913 وقع اختيار الاتحاديين على ضابط الباني من منتسبي جمعيتهم ليكون واليا على الحجاز مع تعليمات بإضعاف ما للشريف حسين من نفوذ ومقاومته والقبض عليه اذا استوجب الامر، والغاء امتيازات الحجاز المحلية التي يتمتع بها منذ السابق بسبب وضعه الديني وجعلها ولاية عادية، وذلك عن طريق تطبيق قانون الولايات الجديد الذي ينص على ان يدفع اهالي الحجاز الضرائب كغيرهم من سكان الولايات الاخرى، بعد ان كانوا معفيين منها منذ امد طويل وتنفيذ التجنيد الاجباري على ابناء الحجاز.
ويورد الفريق غالب باشا نص التعليمات التي اعطيت لوهيب باشا في مذكراته: "اننا نعلم ان الشريف حسين عمل بكل قواه في سبيل استقلال العرب وسلخ هذه البلاد عن السلطنة العثمانية، ولهذا عزمنا على عزله وتولية الشريف على حيدر (من آل زيد) بدلا عنه. فعليك حين وصولك الى مكة ان توجد خلافا بين مقامي الولاية والامارة لنتمكن من تحقيق هذا الهدف".
يتبين من خلال ما تقدم بأن الاتحاديين قرروا انتهاج سياسة جديدة في الحجاز وهي سياسة الحكم المركزي وتطبيق قانون الولايات الجديد من جهة، وسياسة التتريك من جهة اخرى، وهذه السياسة التي حرص الاتحاديون على ادخالها في الحجاز تهدف للقضاء على كل ما للشريف حسين من نفوذ وامتيازات.
رفض الشريف حسين هذا الوضع الجديد الذي اراده الاتحاديون لولاية الحجاز وعارض فرض التجنيد الاجباري في ربوع الحجاز، والواقع ان الرفض لم يقتصر على الشريف حسين واتباعه فحسب بل عم اكثر سكان المدن الرئيسية وولّد جوا من الفوضى، وتجمهر اهل مكة حول دار الحكومة ينادون بعد تغيير امتيازات الحجاز.
واثناء ذلك جاء الشريف حسين الى الوالي ودخل عليه وقال له: "ها انت ترى رغبة الشعب الحجازي في التمسك بحقوقه القديمة بالشروط التي بويع بها السلطان سليم الاول بالخلافة، فإذا كانت في يدك اوامر من الدولة بتطبيق قانون الولايات على هذه البلاد وسلخ امتيازاتها فأرنا هذه الاوامر التي لم تأت منها من الباب العالي أي اشارة، وإن كان من المقصود اجراء تبديل في الامارة فهذا أنا سأبقى هنا الى حين تأتي الباخرة التي سأسافر بها الى جدة لئلا يقع ما تسند تبعاته إلي".
وهنا نلاحظ بأن الشريف حسين قدم نصيحة للوالي بالكف عما جاء من اجله وضرورة احتفاظ الحجاز بحقوقها القديمة وفي الوقت نفسه ابرق الشريف حسين الى استنبول، مؤكدا طلبه هذا وشكواه من تصرفات الوالي.
ادرك وهيب باشا عجزه عن ازاحة الشريف حسين من منصبه لمتانة العلاقة القوية التي تربطه بالسلطان، (بالرغم من ان سلطة السلطان كانت صورية)، لذلك قررت جمعية الاتحاد خلع الشريف حسين بالقوة وذلك بإرسال فرقة عسكرية لتتولى هذه المهمة حيث طلب جمال باشا من الباب العالي الموافقة على تعيينه على رأس قيادة القوات التي سيتم ارسالها للحجاز، ولكن لتدخل الصدر الاعظم عدلت الجمعية عن هذه الخطة، لكن الازمة هدأت اثر وصول برقية من الصدر الاعظم سعيد حليم للشريف حسين يؤكد فيها على ابقاء الامتيازات القديمة للحجاز.
وهكذا رأى الاتحاديون ان من حسن السياسة مهادنة الشريف حسين وبنفس الوقت العمل حتى تحين لهم الفرصة لعزله من الشرافة وتولية الشريف علي حيدر من آل زيد مكانه.
وبالرغم من كل المضايقات والاستفزازات التي تعرض لها الشريف حسين على يد جماعة الاتحاد والترقي بقي على اخلاصه للدولة العثمانية وخصوصا للسلطان وهو لم يكن يفكر بالاستقلال عن الدولة العثمانية ابدا، لكن السياسة المتهورة لجمعية الاتحاد والترقي، والتضييق على الشريف حسين هي التي دفعته الى هذا الموضوع كرها، فحتى قبيل اعلان الحرب العالمية الاولى ابدى الشريف حسين كل مساعدة ممكنة للدولة العثمانية للدفاع عن اراضيها فقد اقدم الامير فيصل (نجل الشريف حسين) على إرسال مجاهدين من منطقة الحجاز الى القدس للدفاع عنها.
كما اصدر الشريف حسين امير مكة المكرمة منشورا يذكر فيه ان العرب يرفضون دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الاولى وذلك لضعفها وتراجع اقتصادها نتيجة الحروب، وخروجها من الحرب البلقانية والحرب الايطالية الليبية منهكة، وهو ما اثر سلبا على القدرات العسكرية، وهذه الحروب ادت في حالات كثيرة الى تحميل المواطنين ضرائب اضافية وتجنيد البعض منهم.
ويرى الشريف حسين ان تحالف الدولة العثمانية مع طرف ضد طرف آخر خطأ لأن الدول الاوروبية لها اطماع كثيرة بالأراضي العثمانية، وايضا هناك عدد هام من المسلمين يعيشون داخل الاراضي الاوروبية، وهذا التحالف ربما يسبب لهم المشاكل.
وعلى الرغم من الاستفزازات للشريف حسين من قبل الاتحاد والترقي فقد حافظ الشريف حسين على علاقة الود والمحبة للسلطان كونه الخليفة وحامي المسلمين، فقد منح السلطان محمد الخامس الشريف حسين نيشان هايموني من الرتبة الاولى، كما منح السلطان للشريف حسين وساما اخر عام 1916 (ميدالية امتياز ذهبية لشريف مكة الامير حسين).
ومن الطبيعي ان يقدم الاتحاديون على عزل الشريف حسين وتولية امير مكانه هو الشريف علي حيدر، والغريب ان هذا الفرمان لم يكن صادرا من السلطان العثماني على الرغم انه جرت العادة عند تولية اي شخص لمنصب الشرافية ان يصدر بفرمان عن السلطان .
وقد جاءت هذه الوثيقة باللغة الفرنسية وقد اراد الاتحاديون من هذا العمل على ما يبدو ضرب القبائل الحجازية بعضها ببعض وهي سياسة تنبثق من المبدأ السياسي المعروف فرق تسد، لاسيما اذا علمنا ان الشريف الجديد علي حيدر معروف بتأييده للاتحاديين وموالاتهم في جميع ادوار حياتهم، وكانت مهمة حيدر بث دعاية واسعة للاتحاديين بين اوساط القبائل الحجازية، وذلك عن طريق إنفاق الاموال لاستمالتهم وإغرائهم على الانقضاض على الشريف حسين.
عمان جو-
اكدت (دراسة مراجعة) في الوثائق العثمانية ان الشريف حسين بن علي ظل مخلصا للدولة العثمانية وخصوصا للسلطانين عبدالحميد الثاني ومحمد الخامس، حتى افسدت علاقاتهم جمعية الاتحاد والترقي.
وذكر استاذ التاريخ الحديث والمعاصر في الجامعة اللبنانية الدكتور خالد الجندي في دراسته الموسومة "الشريف حسين بين سلاطين آل عثمان وجمعية الاتحاد والترقي"، ان السلطان عبدالحميد اصدر فرمانا بتولي الشريف حسين لمنصب الشرافة فورا بعد وفاة الشريف عبدالاله استجابة لمذكرة رفعها الحسين الى الصدر الاعظم بوصفه اكبر افراد العائلة الهاشمية سنا، واحقيته بمقام آبائه، مبرهنا على ذلك بالقول "ولو كان على علاقة جيدة مع الاتحاديين لكان رفع المذكرة اليهم باعتبار انه كان لهم كلمة الفصل بتعيين الولاة ولهم اليد الطولى في الدولة".
وتشير الدراسة الى ان السلطان عبدالحميد اعطى الشريف قصرا خاصا على مضيق البسفور عندما استدعي الى استنبول، واكرم وفادته وعينه عضوا بمجلس شورى الدولة برتبة وزير.
وتظهر الدراسة ان اعضاء جمعية الاتحاد والترقي كانوا عازمين على إسناد منصب الشرافة للشريف علي حيدر لولا المعارضة الشديدة لكل من السلطان عبدالحميد والصدر الاعظم، كما اظهروا الغضب لتنصيبه.
وتشير الى ان السلطان عبد الحميد اوضح للشريف حسين مقاومة الاتحاديين له في اقراره للمنصب الجديد بقوله: "اسأل الله ان يجازي من حال بيني وبين الاستفادة من مواهبك الهاشمية، وانني لست بالأمين على الدولة والملك من هذه الفئة المتقلبة"، في اشارة الى جمعية الاتحاد والترقي.
وقد بادله الشريف حسين بالاستعداد لما يكفل حماية (السلطان)، بل تعهد له في اعتبار الحجاز اول من يدافع عنه قائلا: "متى شعرتم جلالتكم بذلك فأول بلد من بلاد العرب تقوم بالواجب المفروض هو الحجاز"، فشكره السلطان وقلده وسام الافتخار.
وتلفت الدراسة الى الموقف المتعاطف بين الصدر الأعظم كامل باشا والشريف حسين عند توديعه للأخير، فقد سلمه مذكرة اكد فيها صلاحياته في الامارة دون الاكتراث بالدستور الجديد، اشارة الى دستور 1908 وانقلاب جمعية الاتحاد والترقي.
وصل الحسين - كما تشير الدراسة الى جدة في الثالث من كانون الثاني 1908 ليلقى استقبالا شعبيا حاشدا- وعند توجهه الى مكة طلب الشريف من استنبول تزويده بأوسمة غير منقوشة ليكافئ بها من يجده جديرا بالمكافأة بين شيوخ القبائل المختلفة ،واجيب طلبه على الفور حيث طلب منه تزويد الباب العالي بأسماء الحاصلين على الأوسمة في وقت لاحق.
وتشير الدراسة الى ان الوفد الذي انتدبه حزب الاتحاد والترقي للسلام على الشريف حسين حال وصوله الى مكة لم يكن راضيا عن خطاب الشريف حسين الذي القاه امامهم واثار لديهم الاستياء والشك والريبة، الامر الذي دفعهم الى الابراق الى مسؤوليهم في العاصمة العثمانية يقولون فيها "بعث عبدالحميد برجل جلس على مقام اسلافه لا يعبأ بأحد ولا يقر بدستور ولا يتجدد"، فكان هذا ايذانا ببداية الخلاف العلني بين الشريف حسين وجمعية الاتحاد والترقي الامر الذي دفعهم الى عداوة الشريف من جهة، وتصميمهم مهما كلف الامر على تطبيق سياستهم المركزية على الحجاز.
وتشير الدراسة الى تدهور العلاقات بين الشريف حسين وحزب الاتحاد والترقي ومعارضته لسياساتهم خصوصا المركزية التي اعتمدوها في جميع الولايات العربية والتي هدف الاتحاديون الى تطبيقها في الحجاز.
يقول الدكتور خالد الجندي، ان الشريف حسين بدأ عمله بوضع حد لتدخل اتحاديي مكة وانصارهم في شؤون الحكومة، فشكوا منه وضجوا من اعماله وتصرفاته ورموه بحب الاستبداد والسيطرة، وشنوا عليه حملة مسعورة في الصحف، عندئذ رأت جمعية الاتحاد والترقي استغلال مناسبة الحج لمهاجمة الشريف حسين عن طريق أمير الحج عبدالرحمن باشا اليوسف الذي اعلن عام 1909 ان الطريق البري للحج بين المدينة المنورة ودمشق غير آمن (طبعا بايعاز من الاتحاد والترقي)، لذا يرى الرجوع بمحمل الشام بطريق البحر من جدة الى سواحل الشام.
وعارض الشريف حسين تنفيذ هذا الاقتراح لأن معناه عجزه عن حماية الامن وتوطيده داخل الحجاز، (وخصوصا انه كان الامتحان الاول للشريف)، فأسرع الشريف حسين الى انتداب اخيه وابنه لايصال موكب الحجيج من مكة الى المدينة المنورة فدمشق، فأعطى الشريف بذلك برهانا واضحا على كفايته وسيطرته على القبائل، وبذلك اثبت انه جدير بمنصب الشرافة.
وتابع القول، اخذ الاتحاديون يضيقون على الشريف حسين اكثر فأكثر، ونظرا لأن مكانة مكة تعتمد بشكل اساسي على ضمان امن الحج، فإن الاتحاديين ركزوا على ذلك وعملوا على فصل المدينة المنورة عن ولاية الحجاز، ويتضح بموجب هذا الفعل ان امير مكة المكرمة (الشريف حسين) اصبح مسؤولا عن الحجيج في مكة المكرمة أما زيارة الحجيج لقبر رسول الله صلى عليه وسلم فقد اصبحت من صلاحيات الحكومة، وهذه سابقة خطيرة.
وأظهرت جماعة الاتحاد والترقي في الحجاز مرة اخرى معارضتها لأمير مكة المكرمة الشريف حسين وذلك عندما انتخب الامير عبدالله والشيخ حسن الشيبة او الشيبي بصفتهما نائبين عن مكة في البرلمان العثماني، فقد رفعت هذه الجماعة برقيات الى البرلمان استنكرت فيه انتخابهما ولكن ذلك لم يغير من نتيجة الانتخابات .
بعد وصول الوالي فؤاد باشا عام 1909 للحجاز، أصبح الصراع مريرا بين الطرفين حيث اتهم الوالي اقرباء الشريف حسين بتدبيرهم ثورة ضد الحكومة، الامر الذي دفع بالشريف الى استنكار هذا الحادث، وفي نهاية العام نفسه ضاق الحسين ذرعا بتصرفات الوالي واصبح لا يطيقه، الامر الذي دفعه الى ارسال شكوى للحكومة تم بموجبها عزل الوالي.
وتشير الدراسة الى استنجاد الدولة العثمانية بالشريف حسين ضد الشيخ محمد الادريسي امير منطقة عسير بسبب اعلانه انفصال اقليم عسير عن الدولة العثمانية، وقد حققت الحملة التي قادها الحسين في بدايتها بعض النجاحات الا ان الظروف الطبيعية حالت بينه وبين القضاء على ثورة الادريسي، وبذلك اثبت الشريف حسين ولاءه للدولة العثمانية.
وتظهر الوثائق ان جمعية الاتحاد والترقي اخذت تخطط لإزالة الشريف حسين على اعتبار ان الاخير كان يخطط للثورة، وكانت هذه الاخبار كلها ملفقة وخصوصا من الصحف الاوروبية ودولها التي كانت تعمل ليل نهار لبث الفتنة بين الشريف حسين والدولة العثمانية، فنجد في احدى الوثائق ما يلي: "ارسلت السفارة العثمانية بأثينا الى نظارة الخارجية، تفيد ان احدى الصحف المجرية قد نشرت خبرا مفاده ان الشريف حسين وبعض العرب بمكة وجدة اعلنوا العصيان ضد الدولة العثمانية ويزمعون على استقلالهم". وفي نفس الوثيقة ايضا وردت برقية اخرى من سفارة الدولة العثمانية ببوخارست وهي باللغة الفرنسية وتذكر الوثيقة: "ان احدى الصحف ذكرت ان شريف مكة أعلن عصيانه، وقد التف حوله عدد هام من أهالي جدة وهم ينوون اعلان استقلالهم".
وتعيد الدراسة اسباب تدخل بريطانيا في الحجاز - استنادا الى الوثائق العثمانية - الى أن بريطانيا وعلى أثر فشلها بمد نفوذها إلى العراق، اصبحت تبحث عن تعويض في منطقة الحجاز، وكانت السلطات العثمانية تؤكد ان البقاع المقدسة هي موطن الانبياء والرسل وأنها منطقة تابعة للمسلمين وستظل.
ويقول الجندي ان شكوك جمعية الاتحاد والترقي حول نوايا الشريف إعلان العصيان على الدولة العثمانية والاستقلال، تسارعت خصوصا في الاجتماع الذي انعقد بين الامير عبدالله واللورد كنشنر المقيم في القاهرة عام 1913 وتأكيدات تخمينات الصحافة الاوروبية والعثمانية، إذ اصبح واضحا أن المسؤولين العثمانيين الكبار متأكدون بأن الشريف حسين بدأ بالتقرب للبريطانيين من اجل المساعدة، ولا شك ان هذه التقارير تبدو أنها قائمة على الشائعات والشكوك.
وعندما شعر الاتحاديون بازدياد نفوذ الشريف حسين، وعلو مكانته وقوة شخصيته، وصعوبة انقياده وعدم تردده في مناقشة الحكومة، والتعبير عن آرائه في القضايا التي تهم الدولة العثمانية عامة والحجاز خاصة - يتابع الجندي- "توجسوا منه خيفة وقرروا التخلص منه والقضاء على استقلال الحجاز النوعي، واصروا على تطبيق قانون الولايات الجديد لعام 1913".
ولفت الى ان الاتحاديين اتبعوا سياسة اكثر تشددا مع الولايات العربية، وكان لبلاد الحجاز نصيب منها. ان هذا الاتجاه الجديد قد وضع بعد انتهاء حربي البلقان الاولى والثانية 1912-1913. فقد بنى الاتحاديون سياسة طورانية اكثر تشددا مع الولايات المتحدة العربية، حيث كان الظهور الاول لليقظة القومية الطورانية بين المثقفين الاتراك، عبارة عن روح ثورية ضد فكرة الجامعة العثمانية، فقد انتقد ادباء الطورانية الجامعة الاسلامية واعتبروها تنقص من حقوق الاتراك. وتبنى فكرة القومية الطورانية في تركيا جمعية الاتحاد والترقي، ومن المعروف، ان هذه الجمعية نشأت وترعرت في احضان اليهود في سالونيك. وقد اكدت ذلك الوثائق البريطانية.
شهد نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين نشاطا قوميا مكثفا. فالقوميون الجدد ينادون بسيادة العرق التركي على باقي الاعراق، بل انهم يجاهرون باحتقار الاعراق الباقية، منتهجين سياسة تتريك الشعوب غير التركية. ولم يكتم كثير من زعماء هذه الحركة حقدهم على بقية القوميات وكرههم لهم، وقد صرح وزير المالية، جاويد بك، فوصف العرب "بالعرق الاسود".
وعملت الاتحاد والترقي على طرد العرب من الوظائف الكبرى التي شغلوها ايام عبدالحميد الثاني، فلم يبق في وزارة الخارجية من العرب سوى موظف واحد، بينما كان السلطان يعمل على تقريب العرب وزعمائهم، وبعد ذلك بدأت صحفهم تشن الحملات المسعورة ليس على العرب الذين كانوا مقربين من السلطان عبدالحميد بل على كل عربي بحيث قرنت اسم العرب بكلمة "بيس" أي قذر وقالت "بيس عرب" ما اثار سخط العرب عموما. وتؤكد الدراسة ان جمعية الاتحاد والترقي بعد تسلمها السلطة بدأت سياسة اكثر تشددا تجاه الاقليات الدينية والعرقية بهدف سحق العناصر غير التركية.
وعن السياسة التي انتهجتها الاتحاد والترقي تجاه الشعوب غير التركية كتب السفير البريطاني في استنبول، الى وزير الخارجية ادوارد غراي في 6 ايلول 1910 يقول "اتشرف بان اطلع سعادتكم اني تلقيت سرا ومن مصدر لا يرقى اليه الشك خلاصة خطاب، القاه طلعت بك في سلانيك على اعضاء جمعية الاتحاد والترقي... وعليه لا يمكن ان يكون هناك مساواة بين المواطنين، ما لم تفلح اولا في تتريك سكان الامبراطورية وهو عمل شاق وطويل المدى، واني لأجرؤ على التنبؤ بأننا سننجح في نهاية الامر وذلك بعد القضاء قضاء مبرما على كل حركة ثورية".
وفي نفس الرسالة يتابع السفير "لقد بدأ منذ زمن بعيد ان جمعية الاتحاد والترقي قد عدلت نهائيا عن فكرة تتريك جميع الشعوب غير التركية بالطرق الدستورية، وعدلت كذلك عن الاساليب الودية لاستمالتها وكسب عطفها وودها، ويبدو كذلك ان العثمنة في نظرها تعني التركية اي جعلها اتراكا، وان سياستها في تتريك السلطنة تعني سحق العناصر غير التركية بمطرقة تركية.
ادت سياسة التتريك التي اتبعتها جمعية الاتحاد والترقي تجاه الشعوب غير التركية الى استنكار واسع في جميع الولايات وخصوصا العربية منها، وعمقت الهوة بين الشريف حسين والجمعية، اذا اتجهت نية انور باشا وزير البحرية وجمال باشا وهما من اقطاب الاتحاديين الى الغاء نظام الشرافة بهدف التخلص من قوة عربية لها نفوذ ديني وادبي كبير في جميع ارجاء العالم الاسلامي.
ومن نهاية عام 1913 وقع اختيار الاتحاديين على ضابط الباني من منتسبي جمعيتهم ليكون واليا على الحجاز مع تعليمات بإضعاف ما للشريف حسين من نفوذ ومقاومته والقبض عليه اذا استوجب الامر، والغاء امتيازات الحجاز المحلية التي يتمتع بها منذ السابق بسبب وضعه الديني وجعلها ولاية عادية، وذلك عن طريق تطبيق قانون الولايات الجديد الذي ينص على ان يدفع اهالي الحجاز الضرائب كغيرهم من سكان الولايات الاخرى، بعد ان كانوا معفيين منها منذ امد طويل وتنفيذ التجنيد الاجباري على ابناء الحجاز.
ويورد الفريق غالب باشا نص التعليمات التي اعطيت لوهيب باشا في مذكراته: "اننا نعلم ان الشريف حسين عمل بكل قواه في سبيل استقلال العرب وسلخ هذه البلاد عن السلطنة العثمانية، ولهذا عزمنا على عزله وتولية الشريف على حيدر (من آل زيد) بدلا عنه. فعليك حين وصولك الى مكة ان توجد خلافا بين مقامي الولاية والامارة لنتمكن من تحقيق هذا الهدف".
يتبين من خلال ما تقدم بأن الاتحاديين قرروا انتهاج سياسة جديدة في الحجاز وهي سياسة الحكم المركزي وتطبيق قانون الولايات الجديد من جهة، وسياسة التتريك من جهة اخرى، وهذه السياسة التي حرص الاتحاديون على ادخالها في الحجاز تهدف للقضاء على كل ما للشريف حسين من نفوذ وامتيازات.
رفض الشريف حسين هذا الوضع الجديد الذي اراده الاتحاديون لولاية الحجاز وعارض فرض التجنيد الاجباري في ربوع الحجاز، والواقع ان الرفض لم يقتصر على الشريف حسين واتباعه فحسب بل عم اكثر سكان المدن الرئيسية وولّد جوا من الفوضى، وتجمهر اهل مكة حول دار الحكومة ينادون بعد تغيير امتيازات الحجاز.
واثناء ذلك جاء الشريف حسين الى الوالي ودخل عليه وقال له: "ها انت ترى رغبة الشعب الحجازي في التمسك بحقوقه القديمة بالشروط التي بويع بها السلطان سليم الاول بالخلافة، فإذا كانت في يدك اوامر من الدولة بتطبيق قانون الولايات على هذه البلاد وسلخ امتيازاتها فأرنا هذه الاوامر التي لم تأت منها من الباب العالي أي اشارة، وإن كان من المقصود اجراء تبديل في الامارة فهذا أنا سأبقى هنا الى حين تأتي الباخرة التي سأسافر بها الى جدة لئلا يقع ما تسند تبعاته إلي".
وهنا نلاحظ بأن الشريف حسين قدم نصيحة للوالي بالكف عما جاء من اجله وضرورة احتفاظ الحجاز بحقوقها القديمة وفي الوقت نفسه ابرق الشريف حسين الى استنبول، مؤكدا طلبه هذا وشكواه من تصرفات الوالي.
ادرك وهيب باشا عجزه عن ازاحة الشريف حسين من منصبه لمتانة العلاقة القوية التي تربطه بالسلطان، (بالرغم من ان سلطة السلطان كانت صورية)، لذلك قررت جمعية الاتحاد خلع الشريف حسين بالقوة وذلك بإرسال فرقة عسكرية لتتولى هذه المهمة حيث طلب جمال باشا من الباب العالي الموافقة على تعيينه على رأس قيادة القوات التي سيتم ارسالها للحجاز، ولكن لتدخل الصدر الاعظم عدلت الجمعية عن هذه الخطة، لكن الازمة هدأت اثر وصول برقية من الصدر الاعظم سعيد حليم للشريف حسين يؤكد فيها على ابقاء الامتيازات القديمة للحجاز.
وهكذا رأى الاتحاديون ان من حسن السياسة مهادنة الشريف حسين وبنفس الوقت العمل حتى تحين لهم الفرصة لعزله من الشرافة وتولية الشريف علي حيدر من آل زيد مكانه.
وبالرغم من كل المضايقات والاستفزازات التي تعرض لها الشريف حسين على يد جماعة الاتحاد والترقي بقي على اخلاصه للدولة العثمانية وخصوصا للسلطان وهو لم يكن يفكر بالاستقلال عن الدولة العثمانية ابدا، لكن السياسة المتهورة لجمعية الاتحاد والترقي، والتضييق على الشريف حسين هي التي دفعته الى هذا الموضوع كرها، فحتى قبيل اعلان الحرب العالمية الاولى ابدى الشريف حسين كل مساعدة ممكنة للدولة العثمانية للدفاع عن اراضيها فقد اقدم الامير فيصل (نجل الشريف حسين) على إرسال مجاهدين من منطقة الحجاز الى القدس للدفاع عنها.
كما اصدر الشريف حسين امير مكة المكرمة منشورا يذكر فيه ان العرب يرفضون دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الاولى وذلك لضعفها وتراجع اقتصادها نتيجة الحروب، وخروجها من الحرب البلقانية والحرب الايطالية الليبية منهكة، وهو ما اثر سلبا على القدرات العسكرية، وهذه الحروب ادت في حالات كثيرة الى تحميل المواطنين ضرائب اضافية وتجنيد البعض منهم.
ويرى الشريف حسين ان تحالف الدولة العثمانية مع طرف ضد طرف آخر خطأ لأن الدول الاوروبية لها اطماع كثيرة بالأراضي العثمانية، وايضا هناك عدد هام من المسلمين يعيشون داخل الاراضي الاوروبية، وهذا التحالف ربما يسبب لهم المشاكل.
وعلى الرغم من الاستفزازات للشريف حسين من قبل الاتحاد والترقي فقد حافظ الشريف حسين على علاقة الود والمحبة للسلطان كونه الخليفة وحامي المسلمين، فقد منح السلطان محمد الخامس الشريف حسين نيشان هايموني من الرتبة الاولى، كما منح السلطان للشريف حسين وساما اخر عام 1916 (ميدالية امتياز ذهبية لشريف مكة الامير حسين).
ومن الطبيعي ان يقدم الاتحاديون على عزل الشريف حسين وتولية امير مكانه هو الشريف علي حيدر، والغريب ان هذا الفرمان لم يكن صادرا من السلطان العثماني على الرغم انه جرت العادة عند تولية اي شخص لمنصب الشرافية ان يصدر بفرمان عن السلطان .
وقد جاءت هذه الوثيقة باللغة الفرنسية وقد اراد الاتحاديون من هذا العمل على ما يبدو ضرب القبائل الحجازية بعضها ببعض وهي سياسة تنبثق من المبدأ السياسي المعروف فرق تسد، لاسيما اذا علمنا ان الشريف الجديد علي حيدر معروف بتأييده للاتحاديين وموالاتهم في جميع ادوار حياتهم، وكانت مهمة حيدر بث دعاية واسعة للاتحاديين بين اوساط القبائل الحجازية، وذلك عن طريق إنفاق الاموال لاستمالتهم وإغرائهم على الانقضاض على الشريف حسين.