عمان جو- محمد تركي الربيعو
تُعدّ مقولة موت الدين من بين أكثر المقولات التي حكمت حقل العلوم السوسيولوجية والفلسفية في القرن العشرين. إذ اعتبرت هذه المقولة أن العلمنة، إلى جانب العقلنة والتمدين ونظام العمل، جاءت بمثابة ثورات تاريخية أدت إلى انتقال المجتمعات الزراعية القروسطية إلى أمم صناعية حديثة.
أخذت هذه المقولة، التي سادت كما أشرنا لفترة طويلة، تشهد على نحو مستمر تآكلاً في صلابتها في العقود الأخيرة لصالح مؤشرات دالة على استمرار الدين وحيويته في مجتمعات عديدة، وهي مؤشرات تراوحت بين صعود الإسلام السياسي والثورة الإسلامية في إيران 1979، وظهور عصر الروحانية الجديدة في أوروبا، وتنامي دور الحركات الإنجيلية في أمريكا، وأيضاً تصاعد وتيرة الصراعات الإثنية/الدينية في الشؤون الدولية.
وقد دفعت هذه الحوادث بعدد من دعاة العلمانية، من أمثال بيتر بيرغر إلى الإعلان عن أن العالم اليومي بات متديناً كما كان من قبل، أو ربما أكثر من ذلك، وهذا ما يعني أن أدبيات المؤرخين والسوسيولوجيين جميعها حول نظرية العلمنة كانت خاطئة بشكل جوهري.
في كتابهما المشترك «مقدّس ودنيوي»، يحاول كل من بيبا نوريس، محاضرة في هارفارد، ورونالد انغلهات، جامعة ميتشيغان، إعادة فتح النقاش من جديد حول مدى دقة دفن العلمانية من عدمه. إذ يريان أن الحديث عن عودة الدين ما زال سابقاً لأوانه، فغالباً ما يعتمد النقاد على عينات شاذة، كما أنهم ركّزوا بشكل كبير على الولايات المتحدة الأمريكية بدلاً من مقارنة دلائل ممنهجة تشمل نطاقاً واسعاً من المجتمعات الغنية والفقيرة.
من هنا، يقترح علينا كتاب «مقدّس ودنيوي» الذهاب أبعد من مجرد الدراسات المتعلقة بحجم حضور الناس للكنائس والجوامع في أوروبا والولايات المتحدة، أو في العالم الإسلامي، والاستناد بدلاً من ذلك إلى قاعدة مكثفة من الدلائل والإحصائيات التي جرى توليدها عبر أربع موجات من استقصاء القيم العالمي، نفّذت بين عامي 1981 و2001 وأجريت فيها مسوحات وطنية ذات صفة تمثيلية في أكثر من 80 مجتمعاً، وشملت أديان العالم الرئيسية جميعها. كما اعتُمِد على دلائل أخرى متعددة المصادر في ما يتعلق بالتدين، بما في ذلك استطلاعات مؤسسة «غالوب» العالمي واستقصاءات الباروميتر الأوروبي.
متى تكون المجتمعات علمانية؟
يرى المؤلفان، انطلاقاً من هذه المؤشرات، أن نظرية العلمنة الكلاسيكية بحاجة إلى تجديد، بيد أن إنكارها بالكامل سيكون خطأ فادحاً، ذلك أن ما نحتاجه برأيهما ليس نظرية ساذجة حول التدين الحتمي للدين أو موت الدين أو عودته، بل نظرية تفسر الواقع. فيقترحان نظرية جديدة حول العلمانية تقوم على فكرة الأمن البشري.
إذ يفترض المؤلفان أن الأمم الغنية والفقيرة في العالم تختلف بشكل جذري في مستويات التنمية البشرية المستدامة، ودرجة اللامساوة الاجتماعية الاقتصادية. لذا فهي تتفاوت في الشروط الحياتية المتصلة بالأمن البشري، الذي لا يُعنى بالبعد العسكري، وإنما يتعلق بتدهور البيئة، إضافة إلى مخاطر الأمراض الوبائية وانتهاك حقوق الإنسان والأزمات الإنسانية والفقر.
وانطلاقاً من هذا التعريف للأمن البشري، يرى المؤلفان أن أهميته اليوم لم تعد تكمن في درء المخاطر، بل بات يلعب دوراً حاسماً في حدوث التدين داخل المجتمعات. فمثلاً تبيّن الأرقام أنه خلال العقود الثلاثة الأخيرة، أضعف التحديث بشكل كبير من تأثير المؤسسات الدينية في المجتمعات الغنية، كما انخفض حضور طقوس الكنيسة، ولم يرتفع على مدى العقود الماضية. علاوة على ذلك، فقد رجال الدين تأثيرهم إلى حد كبير، وما عادوا قادرين على التحكم في مسائل شتى، من مثل تحديد النسل، والطلاق، والإجهاض، والميول الجنسية.
ومما يلاحظه المؤلفان أيضاً أن الأدبيات السوسيولوجية غالباً ما وجدت أن الصغار أقل تديناً من الكبار، في حين تشير مؤشرات استقصاء القيم العالمي، إلى أن الخلاف في التدين لم يكن على مستوى الأجيال.
وخلافاً لأصحاب نظرية سوق الأديان التي تفترض أن الطلب على التدين ثابت، وأن الذي يغير التدين هو العرض، يبين المؤلفان من خلال قراءتهما للمؤشرات، أن تجرية العيش في ظل أوضاع أمن بشري معينة في فترة سنين التكوين الأولى لشخصية الإنسان، تحدّد طبيعة الطلب على الدين، فتجارب النشوء في مجتمعات أقل أمناً، سترفع منسوب أهمية القيم الدينية، وعلى العكس من ذلك، فإن تجربة النشوء في مجتمعات أكثر أمناً ستُقلّل منها.
ففي الأمم ما بعد الصناعية (السويد، اليابان) نجد أن توفر الحماية والتحكم والأعمار المديدة والصحة، لعبت دوراً في أن يكون هناك عدد أقل من الناس في هذه المجتمعات ممن يعتبرون القيم التقليدية والمعتقدات والممارسات الروحية مهمّة وحيوية في حياتهم وحياة مجتمعاتهم. وهذا لا يعني، وفقاً للكتاب، أن أشكال الدين جميعها ستختفي مع تطور المجتمعات، بل ستبقى لكن بحمولة رمزية أقل. ولعل ما يلفت النظر هو أن هذه العلمنة كما تُظهِرها المؤشرات لا تحدث في أوروبا الغربية وحدها، كما زعم بعض النقاد، بل في معظم المجتمعات الصناعية المتقدمة بما في ذلك المجتمعات ما بعد الصناعية.
مقاربة جيلية للعلمنة: هل باتت صالحة؟
مما يلاحظه المؤلفان من خلال مؤشراتهما، أن جملة حوادث تاريخية كبيرة وتجارب عامة فرضت نفسها على جيل معين، فالذين نشأوا في البلدان الغربية مثلاً، في فترة ما بين الحربين العالميتين، اختبروا في ثلاثينيات القرن العشرين، وبسبب فترة الكساد الكبير انهيارا مأساوياً للبورصة والمدخّرات المالية، وبطالة شاملة، واقتصر طعامهم على حساء المطابخ، ولذلك فإن هذا الجيل بقي على الأرجح يولي أهمية للأهداف الاجتماعية المادية، مثل وظيفة كاملة ومضمونة، وخفض التضخم، إضافة إلى التمسك برؤى الدين التقليدية ودعم السلطات الدينية. في حين نجد أن أفراد جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية في هذه الأمم، من الذين تربوا في فترات وفرة مالية غير مسبوقة وسلام محلي واستقرار اجتماعي، تمسّكوا في غالبيتهم بالقيم والمعتقدات العلمانية.
ومما يلاحظه المؤلفان أيضاً أن الأدبيات السوسيولوجية غالباً ما وجدت أن الصغار أقل تديناً من الكبار، في حين تشير مؤشرات استقصاء القيم العالمي، إلى أن الخلاف في التدين لم يكن على مستوى الأجيال، إذ لا يوجد ميل فطري للناس باتجاه أن يصبحوا أكثر تديناً عندما يكبرون، وإنما نلاحظ أن درجات التدين تختلف تبعاً للمجتمع الذي يعيش فيه الفرد، فالتغير الثقافي السريع في المجتمعات الغنية هو الذي ساهم في نقل قيم المجتمع ومعتقداته الأساسية نحو وجهة أكثر علمانية.
بالعودة إلى الأطروحة الأساسية للكتاب، فإن ما يهدف المؤلفان إلى قوله، إن توافر شروط الأمن البشري واختبار التحسن في المساواة الاقتصادية يؤثران بطريقة غير مباشرة في درجة المشاركة والقيم الدينية في حياة الناس اليومية. إلا أنه على الرغم من ذلك كله، يبقى من الصعب برهنة علاقة سببية بشكل حاسم، وذلك بسبب عدم وجود أرقام دقيقة، كما أن هذه الرؤى قد تهمل أحياناً عوامل ذات تأثير فاعل في قوة الحياة الروحية وروحيتها في بلدان معينة، بما فيها تقييد الحريات الدينية في الصين وفيتنام، ودور إرساليات التبشير في أمريكا اللاتينية، وإرث دول ما بعد الشيوعية. ويؤكد المؤلفان، رغم هذه الحيرة أو اليقين في ربط العلمنة بالأمن البشري، على أن نظريتهما تبدو أكثر وجاهة وقدرة على إسقاط الحجة الفيبرية،
التي مفادها أن الإيمان بالعلم والتكنولوجيا أحبط الإيمان بالعالم السحري والماورائي وقوّضه؛ إذ لو كان لاعتماد الرؤية العقلانية للعالم دور في هذا المجال، فعلينا أن نتوقع أن تكون المجتمعات ذات المواقف الأكثر إيجابية تجاه العلم هي الأكثر تشكيكاً في المعتقدات الدينية. بيد أن العكس هو الصحيح كما تُظهِر بعض المؤشرات، إذ نجد أن لدى المجتمعات ذات الإيمان القوي بالعلم في الأغلب، اعتقادا قوياً بالدين أيضاً، ما يعني أن العلاقة السلبية بين الإيمان بالعلم والتدين حسب توقعات النظرية الفيبرية، هي في الحقيقة علاقة إيجابية.
فمثلاً لا يرى الناس في المجتمعات الإسلامية أي تعارض بين إيمانهم بأن التقدم العلمي يحمل وعوداً كبيرة للتقدم البشري، وإيمانهم بمعتقداتهم الروحية الأساسية، مثل وجود الجنة والنار. كما أظهرت المجتمعات الأكثر علمانية وما بعد الصناعية مثل هولندا والنرويج والدنمارك شكوكاً اتجاه القيم الدينية حسب، بل تجاه وقع العلم والتكنولوجيا وتأثيرها أيضاً من قبيل استعمال الأطعمة المعدّلة وراثياً. وبالتالي لا ترتبط العلمنة بمدى الإيمان بالعلم حسب، بل منوطة بعدد من العوامل الاقتصادية وانهيار دولة الرفاه وسقوط الدول، أو بالأحرى تتعلق بغياب الأمن البشري من عدمه كما تخلص نظرية العلمنة الجديدة.
اقرأ أيضاً..
عمان جو- محمد تركي الربيعو
تُعدّ مقولة موت الدين من بين أكثر المقولات التي حكمت حقل العلوم السوسيولوجية والفلسفية في القرن العشرين. إذ اعتبرت هذه المقولة أن العلمنة، إلى جانب العقلنة والتمدين ونظام العمل، جاءت بمثابة ثورات تاريخية أدت إلى انتقال المجتمعات الزراعية القروسطية إلى أمم صناعية حديثة.
أخذت هذه المقولة، التي سادت كما أشرنا لفترة طويلة، تشهد على نحو مستمر تآكلاً في صلابتها في العقود الأخيرة لصالح مؤشرات دالة على استمرار الدين وحيويته في مجتمعات عديدة، وهي مؤشرات تراوحت بين صعود الإسلام السياسي والثورة الإسلامية في إيران 1979، وظهور عصر الروحانية الجديدة في أوروبا، وتنامي دور الحركات الإنجيلية في أمريكا، وأيضاً تصاعد وتيرة الصراعات الإثنية/الدينية في الشؤون الدولية.
وقد دفعت هذه الحوادث بعدد من دعاة العلمانية، من أمثال بيتر بيرغر إلى الإعلان عن أن العالم اليومي بات متديناً كما كان من قبل، أو ربما أكثر من ذلك، وهذا ما يعني أن أدبيات المؤرخين والسوسيولوجيين جميعها حول نظرية العلمنة كانت خاطئة بشكل جوهري.
في كتابهما المشترك «مقدّس ودنيوي»، يحاول كل من بيبا نوريس، محاضرة في هارفارد، ورونالد انغلهات، جامعة ميتشيغان، إعادة فتح النقاش من جديد حول مدى دقة دفن العلمانية من عدمه. إذ يريان أن الحديث عن عودة الدين ما زال سابقاً لأوانه، فغالباً ما يعتمد النقاد على عينات شاذة، كما أنهم ركّزوا بشكل كبير على الولايات المتحدة الأمريكية بدلاً من مقارنة دلائل ممنهجة تشمل نطاقاً واسعاً من المجتمعات الغنية والفقيرة.
من هنا، يقترح علينا كتاب «مقدّس ودنيوي» الذهاب أبعد من مجرد الدراسات المتعلقة بحجم حضور الناس للكنائس والجوامع في أوروبا والولايات المتحدة، أو في العالم الإسلامي، والاستناد بدلاً من ذلك إلى قاعدة مكثفة من الدلائل والإحصائيات التي جرى توليدها عبر أربع موجات من استقصاء القيم العالمي، نفّذت بين عامي 1981 و2001 وأجريت فيها مسوحات وطنية ذات صفة تمثيلية في أكثر من 80 مجتمعاً، وشملت أديان العالم الرئيسية جميعها. كما اعتُمِد على دلائل أخرى متعددة المصادر في ما يتعلق بالتدين، بما في ذلك استطلاعات مؤسسة «غالوب» العالمي واستقصاءات الباروميتر الأوروبي.
متى تكون المجتمعات علمانية؟
يرى المؤلفان، انطلاقاً من هذه المؤشرات، أن نظرية العلمنة الكلاسيكية بحاجة إلى تجديد، بيد أن إنكارها بالكامل سيكون خطأ فادحاً، ذلك أن ما نحتاجه برأيهما ليس نظرية ساذجة حول التدين الحتمي للدين أو موت الدين أو عودته، بل نظرية تفسر الواقع. فيقترحان نظرية جديدة حول العلمانية تقوم على فكرة الأمن البشري.
إذ يفترض المؤلفان أن الأمم الغنية والفقيرة في العالم تختلف بشكل جذري في مستويات التنمية البشرية المستدامة، ودرجة اللامساوة الاجتماعية الاقتصادية. لذا فهي تتفاوت في الشروط الحياتية المتصلة بالأمن البشري، الذي لا يُعنى بالبعد العسكري، وإنما يتعلق بتدهور البيئة، إضافة إلى مخاطر الأمراض الوبائية وانتهاك حقوق الإنسان والأزمات الإنسانية والفقر.
وانطلاقاً من هذا التعريف للأمن البشري، يرى المؤلفان أن أهميته اليوم لم تعد تكمن في درء المخاطر، بل بات يلعب دوراً حاسماً في حدوث التدين داخل المجتمعات. فمثلاً تبيّن الأرقام أنه خلال العقود الثلاثة الأخيرة، أضعف التحديث بشكل كبير من تأثير المؤسسات الدينية في المجتمعات الغنية، كما انخفض حضور طقوس الكنيسة، ولم يرتفع على مدى العقود الماضية. علاوة على ذلك، فقد رجال الدين تأثيرهم إلى حد كبير، وما عادوا قادرين على التحكم في مسائل شتى، من مثل تحديد النسل، والطلاق، والإجهاض، والميول الجنسية.
ومما يلاحظه المؤلفان أيضاً أن الأدبيات السوسيولوجية غالباً ما وجدت أن الصغار أقل تديناً من الكبار، في حين تشير مؤشرات استقصاء القيم العالمي، إلى أن الخلاف في التدين لم يكن على مستوى الأجيال.
وخلافاً لأصحاب نظرية سوق الأديان التي تفترض أن الطلب على التدين ثابت، وأن الذي يغير التدين هو العرض، يبين المؤلفان من خلال قراءتهما للمؤشرات، أن تجرية العيش في ظل أوضاع أمن بشري معينة في فترة سنين التكوين الأولى لشخصية الإنسان، تحدّد طبيعة الطلب على الدين، فتجارب النشوء في مجتمعات أقل أمناً، سترفع منسوب أهمية القيم الدينية، وعلى العكس من ذلك، فإن تجربة النشوء في مجتمعات أكثر أمناً ستُقلّل منها.
ففي الأمم ما بعد الصناعية (السويد، اليابان) نجد أن توفر الحماية والتحكم والأعمار المديدة والصحة، لعبت دوراً في أن يكون هناك عدد أقل من الناس في هذه المجتمعات ممن يعتبرون القيم التقليدية والمعتقدات والممارسات الروحية مهمّة وحيوية في حياتهم وحياة مجتمعاتهم. وهذا لا يعني، وفقاً للكتاب، أن أشكال الدين جميعها ستختفي مع تطور المجتمعات، بل ستبقى لكن بحمولة رمزية أقل. ولعل ما يلفت النظر هو أن هذه العلمنة كما تُظهِرها المؤشرات لا تحدث في أوروبا الغربية وحدها، كما زعم بعض النقاد، بل في معظم المجتمعات الصناعية المتقدمة بما في ذلك المجتمعات ما بعد الصناعية.
مقاربة جيلية للعلمنة: هل باتت صالحة؟
مما يلاحظه المؤلفان من خلال مؤشراتهما، أن جملة حوادث تاريخية كبيرة وتجارب عامة فرضت نفسها على جيل معين، فالذين نشأوا في البلدان الغربية مثلاً، في فترة ما بين الحربين العالميتين، اختبروا في ثلاثينيات القرن العشرين، وبسبب فترة الكساد الكبير انهيارا مأساوياً للبورصة والمدخّرات المالية، وبطالة شاملة، واقتصر طعامهم على حساء المطابخ، ولذلك فإن هذا الجيل بقي على الأرجح يولي أهمية للأهداف الاجتماعية المادية، مثل وظيفة كاملة ومضمونة، وخفض التضخم، إضافة إلى التمسك برؤى الدين التقليدية ودعم السلطات الدينية. في حين نجد أن أفراد جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية في هذه الأمم، من الذين تربوا في فترات وفرة مالية غير مسبوقة وسلام محلي واستقرار اجتماعي، تمسّكوا في غالبيتهم بالقيم والمعتقدات العلمانية.
ومما يلاحظه المؤلفان أيضاً أن الأدبيات السوسيولوجية غالباً ما وجدت أن الصغار أقل تديناً من الكبار، في حين تشير مؤشرات استقصاء القيم العالمي، إلى أن الخلاف في التدين لم يكن على مستوى الأجيال، إذ لا يوجد ميل فطري للناس باتجاه أن يصبحوا أكثر تديناً عندما يكبرون، وإنما نلاحظ أن درجات التدين تختلف تبعاً للمجتمع الذي يعيش فيه الفرد، فالتغير الثقافي السريع في المجتمعات الغنية هو الذي ساهم في نقل قيم المجتمع ومعتقداته الأساسية نحو وجهة أكثر علمانية.
بالعودة إلى الأطروحة الأساسية للكتاب، فإن ما يهدف المؤلفان إلى قوله، إن توافر شروط الأمن البشري واختبار التحسن في المساواة الاقتصادية يؤثران بطريقة غير مباشرة في درجة المشاركة والقيم الدينية في حياة الناس اليومية. إلا أنه على الرغم من ذلك كله، يبقى من الصعب برهنة علاقة سببية بشكل حاسم، وذلك بسبب عدم وجود أرقام دقيقة، كما أن هذه الرؤى قد تهمل أحياناً عوامل ذات تأثير فاعل في قوة الحياة الروحية وروحيتها في بلدان معينة، بما فيها تقييد الحريات الدينية في الصين وفيتنام، ودور إرساليات التبشير في أمريكا اللاتينية، وإرث دول ما بعد الشيوعية. ويؤكد المؤلفان، رغم هذه الحيرة أو اليقين في ربط العلمنة بالأمن البشري، على أن نظريتهما تبدو أكثر وجاهة وقدرة على إسقاط الحجة الفيبرية،
التي مفادها أن الإيمان بالعلم والتكنولوجيا أحبط الإيمان بالعالم السحري والماورائي وقوّضه؛ إذ لو كان لاعتماد الرؤية العقلانية للعالم دور في هذا المجال، فعلينا أن نتوقع أن تكون المجتمعات ذات المواقف الأكثر إيجابية تجاه العلم هي الأكثر تشكيكاً في المعتقدات الدينية. بيد أن العكس هو الصحيح كما تُظهِر بعض المؤشرات، إذ نجد أن لدى المجتمعات ذات الإيمان القوي بالعلم في الأغلب، اعتقادا قوياً بالدين أيضاً، ما يعني أن العلاقة السلبية بين الإيمان بالعلم والتدين حسب توقعات النظرية الفيبرية، هي في الحقيقة علاقة إيجابية.
فمثلاً لا يرى الناس في المجتمعات الإسلامية أي تعارض بين إيمانهم بأن التقدم العلمي يحمل وعوداً كبيرة للتقدم البشري، وإيمانهم بمعتقداتهم الروحية الأساسية، مثل وجود الجنة والنار. كما أظهرت المجتمعات الأكثر علمانية وما بعد الصناعية مثل هولندا والنرويج والدنمارك شكوكاً اتجاه القيم الدينية حسب، بل تجاه وقع العلم والتكنولوجيا وتأثيرها أيضاً من قبيل استعمال الأطعمة المعدّلة وراثياً. وبالتالي لا ترتبط العلمنة بمدى الإيمان بالعلم حسب، بل منوطة بعدد من العوامل الاقتصادية وانهيار دولة الرفاه وسقوط الدول، أو بالأحرى تتعلق بغياب الأمن البشري من عدمه كما تخلص نظرية العلمنة الجديدة.
اقرأ أيضاً..
عمان جو- محمد تركي الربيعو
تُعدّ مقولة موت الدين من بين أكثر المقولات التي حكمت حقل العلوم السوسيولوجية والفلسفية في القرن العشرين. إذ اعتبرت هذه المقولة أن العلمنة، إلى جانب العقلنة والتمدين ونظام العمل، جاءت بمثابة ثورات تاريخية أدت إلى انتقال المجتمعات الزراعية القروسطية إلى أمم صناعية حديثة.
أخذت هذه المقولة، التي سادت كما أشرنا لفترة طويلة، تشهد على نحو مستمر تآكلاً في صلابتها في العقود الأخيرة لصالح مؤشرات دالة على استمرار الدين وحيويته في مجتمعات عديدة، وهي مؤشرات تراوحت بين صعود الإسلام السياسي والثورة الإسلامية في إيران 1979، وظهور عصر الروحانية الجديدة في أوروبا، وتنامي دور الحركات الإنجيلية في أمريكا، وأيضاً تصاعد وتيرة الصراعات الإثنية/الدينية في الشؤون الدولية.
وقد دفعت هذه الحوادث بعدد من دعاة العلمانية، من أمثال بيتر بيرغر إلى الإعلان عن أن العالم اليومي بات متديناً كما كان من قبل، أو ربما أكثر من ذلك، وهذا ما يعني أن أدبيات المؤرخين والسوسيولوجيين جميعها حول نظرية العلمنة كانت خاطئة بشكل جوهري.
في كتابهما المشترك «مقدّس ودنيوي»، يحاول كل من بيبا نوريس، محاضرة في هارفارد، ورونالد انغلهات، جامعة ميتشيغان، إعادة فتح النقاش من جديد حول مدى دقة دفن العلمانية من عدمه. إذ يريان أن الحديث عن عودة الدين ما زال سابقاً لأوانه، فغالباً ما يعتمد النقاد على عينات شاذة، كما أنهم ركّزوا بشكل كبير على الولايات المتحدة الأمريكية بدلاً من مقارنة دلائل ممنهجة تشمل نطاقاً واسعاً من المجتمعات الغنية والفقيرة.
من هنا، يقترح علينا كتاب «مقدّس ودنيوي» الذهاب أبعد من مجرد الدراسات المتعلقة بحجم حضور الناس للكنائس والجوامع في أوروبا والولايات المتحدة، أو في العالم الإسلامي، والاستناد بدلاً من ذلك إلى قاعدة مكثفة من الدلائل والإحصائيات التي جرى توليدها عبر أربع موجات من استقصاء القيم العالمي، نفّذت بين عامي 1981 و2001 وأجريت فيها مسوحات وطنية ذات صفة تمثيلية في أكثر من 80 مجتمعاً، وشملت أديان العالم الرئيسية جميعها. كما اعتُمِد على دلائل أخرى متعددة المصادر في ما يتعلق بالتدين، بما في ذلك استطلاعات مؤسسة «غالوب» العالمي واستقصاءات الباروميتر الأوروبي.
متى تكون المجتمعات علمانية؟
يرى المؤلفان، انطلاقاً من هذه المؤشرات، أن نظرية العلمنة الكلاسيكية بحاجة إلى تجديد، بيد أن إنكارها بالكامل سيكون خطأ فادحاً، ذلك أن ما نحتاجه برأيهما ليس نظرية ساذجة حول التدين الحتمي للدين أو موت الدين أو عودته، بل نظرية تفسر الواقع. فيقترحان نظرية جديدة حول العلمانية تقوم على فكرة الأمن البشري.
إذ يفترض المؤلفان أن الأمم الغنية والفقيرة في العالم تختلف بشكل جذري في مستويات التنمية البشرية المستدامة، ودرجة اللامساوة الاجتماعية الاقتصادية. لذا فهي تتفاوت في الشروط الحياتية المتصلة بالأمن البشري، الذي لا يُعنى بالبعد العسكري، وإنما يتعلق بتدهور البيئة، إضافة إلى مخاطر الأمراض الوبائية وانتهاك حقوق الإنسان والأزمات الإنسانية والفقر.
وانطلاقاً من هذا التعريف للأمن البشري، يرى المؤلفان أن أهميته اليوم لم تعد تكمن في درء المخاطر، بل بات يلعب دوراً حاسماً في حدوث التدين داخل المجتمعات. فمثلاً تبيّن الأرقام أنه خلال العقود الثلاثة الأخيرة، أضعف التحديث بشكل كبير من تأثير المؤسسات الدينية في المجتمعات الغنية، كما انخفض حضور طقوس الكنيسة، ولم يرتفع على مدى العقود الماضية. علاوة على ذلك، فقد رجال الدين تأثيرهم إلى حد كبير، وما عادوا قادرين على التحكم في مسائل شتى، من مثل تحديد النسل، والطلاق، والإجهاض، والميول الجنسية.
ومما يلاحظه المؤلفان أيضاً أن الأدبيات السوسيولوجية غالباً ما وجدت أن الصغار أقل تديناً من الكبار، في حين تشير مؤشرات استقصاء القيم العالمي، إلى أن الخلاف في التدين لم يكن على مستوى الأجيال.
وخلافاً لأصحاب نظرية سوق الأديان التي تفترض أن الطلب على التدين ثابت، وأن الذي يغير التدين هو العرض، يبين المؤلفان من خلال قراءتهما للمؤشرات، أن تجرية العيش في ظل أوضاع أمن بشري معينة في فترة سنين التكوين الأولى لشخصية الإنسان، تحدّد طبيعة الطلب على الدين، فتجارب النشوء في مجتمعات أقل أمناً، سترفع منسوب أهمية القيم الدينية، وعلى العكس من ذلك، فإن تجربة النشوء في مجتمعات أكثر أمناً ستُقلّل منها.
ففي الأمم ما بعد الصناعية (السويد، اليابان) نجد أن توفر الحماية والتحكم والأعمار المديدة والصحة، لعبت دوراً في أن يكون هناك عدد أقل من الناس في هذه المجتمعات ممن يعتبرون القيم التقليدية والمعتقدات والممارسات الروحية مهمّة وحيوية في حياتهم وحياة مجتمعاتهم. وهذا لا يعني، وفقاً للكتاب، أن أشكال الدين جميعها ستختفي مع تطور المجتمعات، بل ستبقى لكن بحمولة رمزية أقل. ولعل ما يلفت النظر هو أن هذه العلمنة كما تُظهِرها المؤشرات لا تحدث في أوروبا الغربية وحدها، كما زعم بعض النقاد، بل في معظم المجتمعات الصناعية المتقدمة بما في ذلك المجتمعات ما بعد الصناعية.
مقاربة جيلية للعلمنة: هل باتت صالحة؟
مما يلاحظه المؤلفان من خلال مؤشراتهما، أن جملة حوادث تاريخية كبيرة وتجارب عامة فرضت نفسها على جيل معين، فالذين نشأوا في البلدان الغربية مثلاً، في فترة ما بين الحربين العالميتين، اختبروا في ثلاثينيات القرن العشرين، وبسبب فترة الكساد الكبير انهيارا مأساوياً للبورصة والمدخّرات المالية، وبطالة شاملة، واقتصر طعامهم على حساء المطابخ، ولذلك فإن هذا الجيل بقي على الأرجح يولي أهمية للأهداف الاجتماعية المادية، مثل وظيفة كاملة ومضمونة، وخفض التضخم، إضافة إلى التمسك برؤى الدين التقليدية ودعم السلطات الدينية. في حين نجد أن أفراد جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية في هذه الأمم، من الذين تربوا في فترات وفرة مالية غير مسبوقة وسلام محلي واستقرار اجتماعي، تمسّكوا في غالبيتهم بالقيم والمعتقدات العلمانية.
ومما يلاحظه المؤلفان أيضاً أن الأدبيات السوسيولوجية غالباً ما وجدت أن الصغار أقل تديناً من الكبار، في حين تشير مؤشرات استقصاء القيم العالمي، إلى أن الخلاف في التدين لم يكن على مستوى الأجيال، إذ لا يوجد ميل فطري للناس باتجاه أن يصبحوا أكثر تديناً عندما يكبرون، وإنما نلاحظ أن درجات التدين تختلف تبعاً للمجتمع الذي يعيش فيه الفرد، فالتغير الثقافي السريع في المجتمعات الغنية هو الذي ساهم في نقل قيم المجتمع ومعتقداته الأساسية نحو وجهة أكثر علمانية.
بالعودة إلى الأطروحة الأساسية للكتاب، فإن ما يهدف المؤلفان إلى قوله، إن توافر شروط الأمن البشري واختبار التحسن في المساواة الاقتصادية يؤثران بطريقة غير مباشرة في درجة المشاركة والقيم الدينية في حياة الناس اليومية. إلا أنه على الرغم من ذلك كله، يبقى من الصعب برهنة علاقة سببية بشكل حاسم، وذلك بسبب عدم وجود أرقام دقيقة، كما أن هذه الرؤى قد تهمل أحياناً عوامل ذات تأثير فاعل في قوة الحياة الروحية وروحيتها في بلدان معينة، بما فيها تقييد الحريات الدينية في الصين وفيتنام، ودور إرساليات التبشير في أمريكا اللاتينية، وإرث دول ما بعد الشيوعية. ويؤكد المؤلفان، رغم هذه الحيرة أو اليقين في ربط العلمنة بالأمن البشري، على أن نظريتهما تبدو أكثر وجاهة وقدرة على إسقاط الحجة الفيبرية،
التي مفادها أن الإيمان بالعلم والتكنولوجيا أحبط الإيمان بالعالم السحري والماورائي وقوّضه؛ إذ لو كان لاعتماد الرؤية العقلانية للعالم دور في هذا المجال، فعلينا أن نتوقع أن تكون المجتمعات ذات المواقف الأكثر إيجابية تجاه العلم هي الأكثر تشكيكاً في المعتقدات الدينية. بيد أن العكس هو الصحيح كما تُظهِر بعض المؤشرات، إذ نجد أن لدى المجتمعات ذات الإيمان القوي بالعلم في الأغلب، اعتقادا قوياً بالدين أيضاً، ما يعني أن العلاقة السلبية بين الإيمان بالعلم والتدين حسب توقعات النظرية الفيبرية، هي في الحقيقة علاقة إيجابية.
فمثلاً لا يرى الناس في المجتمعات الإسلامية أي تعارض بين إيمانهم بأن التقدم العلمي يحمل وعوداً كبيرة للتقدم البشري، وإيمانهم بمعتقداتهم الروحية الأساسية، مثل وجود الجنة والنار. كما أظهرت المجتمعات الأكثر علمانية وما بعد الصناعية مثل هولندا والنرويج والدنمارك شكوكاً اتجاه القيم الدينية حسب، بل تجاه وقع العلم والتكنولوجيا وتأثيرها أيضاً من قبيل استعمال الأطعمة المعدّلة وراثياً. وبالتالي لا ترتبط العلمنة بمدى الإيمان بالعلم حسب، بل منوطة بعدد من العوامل الاقتصادية وانهيار دولة الرفاه وسقوط الدول، أو بالأحرى تتعلق بغياب الأمن البشري من عدمه كما تخلص نظرية العلمنة الجديدة.
اقرأ أيضاً..
التعليقات