عمان جو - طارق ديلوان - لا يوجد رقم موثق يرصد عدد الملحدين في الأردن، ولا وجود لمظلة معلنة تمثلهم. لكن إصدار الحكومة الأردنية، قبل سنتين، قراراً بإصدار بطاقات شخصية ذكية للمواطنين تخلو من خانة الديانة، شكل متنفساً لهم في بلد ينص دستوره في مادته الأولى على أن 'دين الدولة هو الإسلام'.
اليوم يشكل الملحدون في الأردن نسبة وازنة من المجتمع، ويتجاوز عددهم وفق توقعات بعض من حاورناهم الآلاف من كافة الأعمار والأجناس والديانات والمستويات الاجتماعية، خلافاً لاحصائية يتيمة صدرت عام 2014، عن دار الإفتاء المصرية وقدرت عدد الملحدين في الأردن بما لا يتجاوز 200 شخص.
يخشى معظم الملحدين الأردنيين الإفصاح عن معتقداتهم، فيما يهرب آخرون إلى فضاء الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن آرائهم بحرية، غير آبهين بحزمة من القوانين التي تجرمهم.
من الحجاب إلى الإلحاد
تشرف سلمى، وهو اسم مستعار، على صفحة 'الإلحاد واللادين في الأردن' على فيسبوك، التي يتابعها نحو 5 آلاف شخص. لكن هنالك اليوم عشرات المجموعات المغلقة لمن يعتنقون فكر الإلحاد على فيسبوك، التي تضم آلاف المتابعين.
تقول سلمى، التي التقيناها للتعرف أكثر على هذه الفئة من الأردنيين، إن الملحدين في الأردن ينقسمون إلى عدة جهات. فبعضهم ربوبيون، أي يؤمنون بوجود إله لكنهم لا يؤمنون بالأديان ويعتقدون أنها من صنع البشر، وثمة آخرين 'لا أدريون' Agnosticism، وهم الذين لا يؤمنون ولا يكفرون بالذات الإلهية، وثمة من لا يؤمن بوجود إله أو خالق.
تتحدث عن قصتها فتقول 'التحقت منذ طفولتي بإحدى أشهر المدارس الإسلامية في عمّان، لكن (الشك) بدأ يتسلل إلى عقلي مع مرحلة الدراسة الثانوية. فقد كنت في صراع داخلي ما بين التدين وعدم اليقين، خصوصاً أنني كنت محجبة، وأحفظ 12 جزءاً من القرآن، لكن بعض الظواهر مثل تعرضي للتحرش على الرغم من تحجبي أسهم في قرار الإلحاد'.
لم تصارح السيدة سلمى مشرفة هذه الصفحة على فيسبوك أحداً من أقاربها ولم تعلن إلحادها على العلن، لكنها تعتقد أن والدها كشف أمرها مؤخراً وتفهم موقفها. وتعتبر أن مبدأ الشك مهم لكل إنسان يعلي من شأن العقل. أما القضية التي شكلت نقطة تحول في حياتها من متدينة إلى ملحدة فهي قضية 'جنسانية' المرأة في الإسلام عموماً، إلى جانب العديد من الأسئلة التي لا وجود لأجوبة مقنعة لها، على حد تعبيرها. وعلى الرغم من ذلك تعترف سلمى أن حقوق المرأة في الإسلام أفضل من الأديان الأخرى.
تديُّن ظاهري
تؤكد السيدة في حديثها وشرحها ومعلوماتها، التي تستقيها من خلال إشرافها على هذه الصفحة، أن عدد الملحدين في الأردن كبير وصادم، غير أن غالبيتهم تلوذ بصمت مطبق طوال حياتها، بل إن بعضهم يمارس تديناً ظاهرياً حتى لا يكشف أمره. وتضيف 'أعرف كثيراً من الملحدات لا زلن محجبات حتى اليوم خوفاً من ردة فعل أهاليهن'. وتشير إلى 'وجود عائلات بأكملها ملحدة، ومن جميع الخلفيات والمستويات والمناطق'.
وفي محاولة لتفسير انتشار هذه الظاهرة، تؤكد سلمى أن 'الملحدين في الأردن من كافة الطبقات وبعضهم من أكبر وأهم العائلات في البلد، بل إن آخرين هم أبناء لرموز المتدينين والجماعات الإسلامية'.
يعقد الملحدون الأردنيون اجتماعات شبه دورية بشكل سري، ويحاولون تشكيل جماعات ضغط بهدف الخروج بمجموعة من القوانين والأنظمة التي تسهل حياتهم كالزواج المدني والاعتراف بعقائد الأقليات. ويرون أنهم لا يشكلون خطراً على أحد.
تعتقد سلمى أن الدين الإسلامي هو أكثر الأديان تسامحاً، وأن المشكلة، وفقها، في المسلمين وطريقة تطبيقهم الدين. وتضيف 'مشكلتنا ليست مع المتدينين، بل مع المتشددين ومع غير المتصالحين مع دينهم'.
لا تخفي محاورتنا شوقها بين الحين والآخر إلى بعض المظاهر الدينية التي تربت عليها واحتياجها لعدة سنوات للتخلص من بعضها.
تلفت السيدة ذاتها إلى تلقي ملحدين تهديدات بالقتل دفعتهم للسفر خارج البلاد. وتختم 'أكثر تيار سياسي يقلقنا هم الإخوان المسلمون بسبب قوتهم السياسية وقدرتهم على تحويل الأردن إلى دولة دينية بينما نحارب نحن من أجل دولة مدنية'.
ملحد من عائلة مسيحية
يبادر عزيز، الذي تحدث لنا حول إلحاده، بالقول 'أفضل أن يتم تعريفي بأنني لا أدري، وهي مجموعة من الملحدين الذين لا يؤمنون ولا يكفرون بالذات الإلهية والأديان. ويضيف 'لم تكن تربيتي في صغري دينية، لكن السبب الذي جعلني ملحداً هو عدم تقبل المؤسسة الدينية التي أنتمي إليها الميول الجنسية المختلفة أو الهوية الجنسية غير المعيارية'.
عزيز، الذي ولد لعائلة أردنية مسيحية، يرى أن نسبة الملحدين من المسيحيين قد تكون أكبر مما هي معلن عنه، لو لم يكن المجتمع المسيحي أقلية. ويؤكد 'في السابق، كنت أعيش صراعاً داخلياً بين الدين والإلحاد، لكن مع مرور الوقت أصبحت أدرك توجهي الروحاني أو عدمه، وأصبحت رؤيتي لهويتي الدينية أوضح مما سبق'.
لا يستطيع عزيز تحديد عدد تقريبي للملحدين في الأردن، لكنه يؤكد أنهم في تزايد ملحوظ. ويعتبر أن النسبة الأكبر من الملحدين هي من ذوي الامتيازات، سواء كانت مادية أو تعليمية، لكنهم من كافة المناطق الأردنية، وهم غالباً من الفئة العمرية الشابة.
يعتقد عزيز أن حقوق الملحدين مهضومة في الأردن، والسبب برأيه هو أن الدستور الأردني مصاغ في كثير من بنوده بناءً على الشريعة الإسلامية، التي لا تعترف بالملحدين بصفتهم شريحة حقيقية من نسيج المجتمع الأردني، مطالباً بتغيير قوانين الزواج ليصبح مدنياً، فضلاً عن قوانين الميراث والنسب أيضاً.
إلحاد أم شك؟
يعزو الدكتور إياد قنيبي، أحد أبرز وجوه التيار السلفي في الأردن، انتشار الإلحاد إلى وجود من يبثون الأفكار التشكيكية في الدين الإسلامي والمسلمات وإقناع النشئ بأن الشك في كل شيء ظاهرة صحية تدل على سعة الأفق، وأن التمسك بالمسلّمات نوع من التزمت والتطرف الفكري.
ويقلل قنيبي من أهمية الأمر باعتبار الظاهرة ليست إلحاداً بقدر ما هي انعدام اليقين، وغياب المسلمات أو القطعيات لدى الشباب بحيث أصبح كل شيء لديهم محل شك وارتياب.
ويرى قنيبي أن المناهج التعليمية تروج لنظرية إلحادية مثل نظرية داروين حول نشوء الخلق، على أنها نظرية علمية وسط جيل من الشباب الذي يتوق إلى سماع إجابات شافية حول ما يثار تجاه الدين والعقيدة من إشكالات.
الحقوق المدنية للملحدين
تقول المحامية تغريد الدغمي إن الدستور الأردني لا يكفل حق الإعتقاد وحرية المعتقدات، بل كفل حرية ممارسة الشعائر الدينية للأديان المعترف بها في الأردن فحسب. وتعتقد أن ذلك يتناقض مع المادة السادسة من الدستور، التي تنص على 'الأردنيون أمام القانون سواء، لا تمييز بينهم على أساس العرق أو اللغة أو الدين'.
تضيف المحامية المتخصصة بالأقليات الدينية أن 'الإلحاد المقترن بإهانة الشعور الديني يعد جريمة في قانون العقوبات الأردني تصل عقوبتها إلى الحبس لمدة ثلاثة أشهر'.
وترى الدغمي أن ثمة حقوق منقوصة للملحدين في القوانين الأردنية، فهم لا يرثون ويفقدون حضانة أطفالهم، وإذا حركت دعوى ضدهم أمام المحاكم الأردنية فإن الملحد يصبح عديم الأهلية وبحاجة إلى وصي
عمان جو - طارق ديلوان - لا يوجد رقم موثق يرصد عدد الملحدين في الأردن، ولا وجود لمظلة معلنة تمثلهم. لكن إصدار الحكومة الأردنية، قبل سنتين، قراراً بإصدار بطاقات شخصية ذكية للمواطنين تخلو من خانة الديانة، شكل متنفساً لهم في بلد ينص دستوره في مادته الأولى على أن 'دين الدولة هو الإسلام'.
اليوم يشكل الملحدون في الأردن نسبة وازنة من المجتمع، ويتجاوز عددهم وفق توقعات بعض من حاورناهم الآلاف من كافة الأعمار والأجناس والديانات والمستويات الاجتماعية، خلافاً لاحصائية يتيمة صدرت عام 2014، عن دار الإفتاء المصرية وقدرت عدد الملحدين في الأردن بما لا يتجاوز 200 شخص.
يخشى معظم الملحدين الأردنيين الإفصاح عن معتقداتهم، فيما يهرب آخرون إلى فضاء الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن آرائهم بحرية، غير آبهين بحزمة من القوانين التي تجرمهم.
من الحجاب إلى الإلحاد
تشرف سلمى، وهو اسم مستعار، على صفحة 'الإلحاد واللادين في الأردن' على فيسبوك، التي يتابعها نحو 5 آلاف شخص. لكن هنالك اليوم عشرات المجموعات المغلقة لمن يعتنقون فكر الإلحاد على فيسبوك، التي تضم آلاف المتابعين.
تقول سلمى، التي التقيناها للتعرف أكثر على هذه الفئة من الأردنيين، إن الملحدين في الأردن ينقسمون إلى عدة جهات. فبعضهم ربوبيون، أي يؤمنون بوجود إله لكنهم لا يؤمنون بالأديان ويعتقدون أنها من صنع البشر، وثمة آخرين 'لا أدريون' Agnosticism، وهم الذين لا يؤمنون ولا يكفرون بالذات الإلهية، وثمة من لا يؤمن بوجود إله أو خالق.
تتحدث عن قصتها فتقول 'التحقت منذ طفولتي بإحدى أشهر المدارس الإسلامية في عمّان، لكن (الشك) بدأ يتسلل إلى عقلي مع مرحلة الدراسة الثانوية. فقد كنت في صراع داخلي ما بين التدين وعدم اليقين، خصوصاً أنني كنت محجبة، وأحفظ 12 جزءاً من القرآن، لكن بعض الظواهر مثل تعرضي للتحرش على الرغم من تحجبي أسهم في قرار الإلحاد'.
لم تصارح السيدة سلمى مشرفة هذه الصفحة على فيسبوك أحداً من أقاربها ولم تعلن إلحادها على العلن، لكنها تعتقد أن والدها كشف أمرها مؤخراً وتفهم موقفها. وتعتبر أن مبدأ الشك مهم لكل إنسان يعلي من شأن العقل. أما القضية التي شكلت نقطة تحول في حياتها من متدينة إلى ملحدة فهي قضية 'جنسانية' المرأة في الإسلام عموماً، إلى جانب العديد من الأسئلة التي لا وجود لأجوبة مقنعة لها، على حد تعبيرها. وعلى الرغم من ذلك تعترف سلمى أن حقوق المرأة في الإسلام أفضل من الأديان الأخرى.
تديُّن ظاهري
تؤكد السيدة في حديثها وشرحها ومعلوماتها، التي تستقيها من خلال إشرافها على هذه الصفحة، أن عدد الملحدين في الأردن كبير وصادم، غير أن غالبيتهم تلوذ بصمت مطبق طوال حياتها، بل إن بعضهم يمارس تديناً ظاهرياً حتى لا يكشف أمره. وتضيف 'أعرف كثيراً من الملحدات لا زلن محجبات حتى اليوم خوفاً من ردة فعل أهاليهن'. وتشير إلى 'وجود عائلات بأكملها ملحدة، ومن جميع الخلفيات والمستويات والمناطق'.
وفي محاولة لتفسير انتشار هذه الظاهرة، تؤكد سلمى أن 'الملحدين في الأردن من كافة الطبقات وبعضهم من أكبر وأهم العائلات في البلد، بل إن آخرين هم أبناء لرموز المتدينين والجماعات الإسلامية'.
يعقد الملحدون الأردنيون اجتماعات شبه دورية بشكل سري، ويحاولون تشكيل جماعات ضغط بهدف الخروج بمجموعة من القوانين والأنظمة التي تسهل حياتهم كالزواج المدني والاعتراف بعقائد الأقليات. ويرون أنهم لا يشكلون خطراً على أحد.
تعتقد سلمى أن الدين الإسلامي هو أكثر الأديان تسامحاً، وأن المشكلة، وفقها، في المسلمين وطريقة تطبيقهم الدين. وتضيف 'مشكلتنا ليست مع المتدينين، بل مع المتشددين ومع غير المتصالحين مع دينهم'.
لا تخفي محاورتنا شوقها بين الحين والآخر إلى بعض المظاهر الدينية التي تربت عليها واحتياجها لعدة سنوات للتخلص من بعضها.
تلفت السيدة ذاتها إلى تلقي ملحدين تهديدات بالقتل دفعتهم للسفر خارج البلاد. وتختم 'أكثر تيار سياسي يقلقنا هم الإخوان المسلمون بسبب قوتهم السياسية وقدرتهم على تحويل الأردن إلى دولة دينية بينما نحارب نحن من أجل دولة مدنية'.
ملحد من عائلة مسيحية
يبادر عزيز، الذي تحدث لنا حول إلحاده، بالقول 'أفضل أن يتم تعريفي بأنني لا أدري، وهي مجموعة من الملحدين الذين لا يؤمنون ولا يكفرون بالذات الإلهية والأديان. ويضيف 'لم تكن تربيتي في صغري دينية، لكن السبب الذي جعلني ملحداً هو عدم تقبل المؤسسة الدينية التي أنتمي إليها الميول الجنسية المختلفة أو الهوية الجنسية غير المعيارية'.
عزيز، الذي ولد لعائلة أردنية مسيحية، يرى أن نسبة الملحدين من المسيحيين قد تكون أكبر مما هي معلن عنه، لو لم يكن المجتمع المسيحي أقلية. ويؤكد 'في السابق، كنت أعيش صراعاً داخلياً بين الدين والإلحاد، لكن مع مرور الوقت أصبحت أدرك توجهي الروحاني أو عدمه، وأصبحت رؤيتي لهويتي الدينية أوضح مما سبق'.
لا يستطيع عزيز تحديد عدد تقريبي للملحدين في الأردن، لكنه يؤكد أنهم في تزايد ملحوظ. ويعتبر أن النسبة الأكبر من الملحدين هي من ذوي الامتيازات، سواء كانت مادية أو تعليمية، لكنهم من كافة المناطق الأردنية، وهم غالباً من الفئة العمرية الشابة.
يعتقد عزيز أن حقوق الملحدين مهضومة في الأردن، والسبب برأيه هو أن الدستور الأردني مصاغ في كثير من بنوده بناءً على الشريعة الإسلامية، التي لا تعترف بالملحدين بصفتهم شريحة حقيقية من نسيج المجتمع الأردني، مطالباً بتغيير قوانين الزواج ليصبح مدنياً، فضلاً عن قوانين الميراث والنسب أيضاً.
إلحاد أم شك؟
يعزو الدكتور إياد قنيبي، أحد أبرز وجوه التيار السلفي في الأردن، انتشار الإلحاد إلى وجود من يبثون الأفكار التشكيكية في الدين الإسلامي والمسلمات وإقناع النشئ بأن الشك في كل شيء ظاهرة صحية تدل على سعة الأفق، وأن التمسك بالمسلّمات نوع من التزمت والتطرف الفكري.
ويقلل قنيبي من أهمية الأمر باعتبار الظاهرة ليست إلحاداً بقدر ما هي انعدام اليقين، وغياب المسلمات أو القطعيات لدى الشباب بحيث أصبح كل شيء لديهم محل شك وارتياب.
ويرى قنيبي أن المناهج التعليمية تروج لنظرية إلحادية مثل نظرية داروين حول نشوء الخلق، على أنها نظرية علمية وسط جيل من الشباب الذي يتوق إلى سماع إجابات شافية حول ما يثار تجاه الدين والعقيدة من إشكالات.
الحقوق المدنية للملحدين
تقول المحامية تغريد الدغمي إن الدستور الأردني لا يكفل حق الإعتقاد وحرية المعتقدات، بل كفل حرية ممارسة الشعائر الدينية للأديان المعترف بها في الأردن فحسب. وتعتقد أن ذلك يتناقض مع المادة السادسة من الدستور، التي تنص على 'الأردنيون أمام القانون سواء، لا تمييز بينهم على أساس العرق أو اللغة أو الدين'.
تضيف المحامية المتخصصة بالأقليات الدينية أن 'الإلحاد المقترن بإهانة الشعور الديني يعد جريمة في قانون العقوبات الأردني تصل عقوبتها إلى الحبس لمدة ثلاثة أشهر'.
وترى الدغمي أن ثمة حقوق منقوصة للملحدين في القوانين الأردنية، فهم لا يرثون ويفقدون حضانة أطفالهم، وإذا حركت دعوى ضدهم أمام المحاكم الأردنية فإن الملحد يصبح عديم الأهلية وبحاجة إلى وصي
عمان جو - طارق ديلوان - لا يوجد رقم موثق يرصد عدد الملحدين في الأردن، ولا وجود لمظلة معلنة تمثلهم. لكن إصدار الحكومة الأردنية، قبل سنتين، قراراً بإصدار بطاقات شخصية ذكية للمواطنين تخلو من خانة الديانة، شكل متنفساً لهم في بلد ينص دستوره في مادته الأولى على أن 'دين الدولة هو الإسلام'.
اليوم يشكل الملحدون في الأردن نسبة وازنة من المجتمع، ويتجاوز عددهم وفق توقعات بعض من حاورناهم الآلاف من كافة الأعمار والأجناس والديانات والمستويات الاجتماعية، خلافاً لاحصائية يتيمة صدرت عام 2014، عن دار الإفتاء المصرية وقدرت عدد الملحدين في الأردن بما لا يتجاوز 200 شخص.
يخشى معظم الملحدين الأردنيين الإفصاح عن معتقداتهم، فيما يهرب آخرون إلى فضاء الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن آرائهم بحرية، غير آبهين بحزمة من القوانين التي تجرمهم.
من الحجاب إلى الإلحاد
تشرف سلمى، وهو اسم مستعار، على صفحة 'الإلحاد واللادين في الأردن' على فيسبوك، التي يتابعها نحو 5 آلاف شخص. لكن هنالك اليوم عشرات المجموعات المغلقة لمن يعتنقون فكر الإلحاد على فيسبوك، التي تضم آلاف المتابعين.
تقول سلمى، التي التقيناها للتعرف أكثر على هذه الفئة من الأردنيين، إن الملحدين في الأردن ينقسمون إلى عدة جهات. فبعضهم ربوبيون، أي يؤمنون بوجود إله لكنهم لا يؤمنون بالأديان ويعتقدون أنها من صنع البشر، وثمة آخرين 'لا أدريون' Agnosticism، وهم الذين لا يؤمنون ولا يكفرون بالذات الإلهية، وثمة من لا يؤمن بوجود إله أو خالق.
تتحدث عن قصتها فتقول 'التحقت منذ طفولتي بإحدى أشهر المدارس الإسلامية في عمّان، لكن (الشك) بدأ يتسلل إلى عقلي مع مرحلة الدراسة الثانوية. فقد كنت في صراع داخلي ما بين التدين وعدم اليقين، خصوصاً أنني كنت محجبة، وأحفظ 12 جزءاً من القرآن، لكن بعض الظواهر مثل تعرضي للتحرش على الرغم من تحجبي أسهم في قرار الإلحاد'.
لم تصارح السيدة سلمى مشرفة هذه الصفحة على فيسبوك أحداً من أقاربها ولم تعلن إلحادها على العلن، لكنها تعتقد أن والدها كشف أمرها مؤخراً وتفهم موقفها. وتعتبر أن مبدأ الشك مهم لكل إنسان يعلي من شأن العقل. أما القضية التي شكلت نقطة تحول في حياتها من متدينة إلى ملحدة فهي قضية 'جنسانية' المرأة في الإسلام عموماً، إلى جانب العديد من الأسئلة التي لا وجود لأجوبة مقنعة لها، على حد تعبيرها. وعلى الرغم من ذلك تعترف سلمى أن حقوق المرأة في الإسلام أفضل من الأديان الأخرى.
تديُّن ظاهري
تؤكد السيدة في حديثها وشرحها ومعلوماتها، التي تستقيها من خلال إشرافها على هذه الصفحة، أن عدد الملحدين في الأردن كبير وصادم، غير أن غالبيتهم تلوذ بصمت مطبق طوال حياتها، بل إن بعضهم يمارس تديناً ظاهرياً حتى لا يكشف أمره. وتضيف 'أعرف كثيراً من الملحدات لا زلن محجبات حتى اليوم خوفاً من ردة فعل أهاليهن'. وتشير إلى 'وجود عائلات بأكملها ملحدة، ومن جميع الخلفيات والمستويات والمناطق'.
وفي محاولة لتفسير انتشار هذه الظاهرة، تؤكد سلمى أن 'الملحدين في الأردن من كافة الطبقات وبعضهم من أكبر وأهم العائلات في البلد، بل إن آخرين هم أبناء لرموز المتدينين والجماعات الإسلامية'.
يعقد الملحدون الأردنيون اجتماعات شبه دورية بشكل سري، ويحاولون تشكيل جماعات ضغط بهدف الخروج بمجموعة من القوانين والأنظمة التي تسهل حياتهم كالزواج المدني والاعتراف بعقائد الأقليات. ويرون أنهم لا يشكلون خطراً على أحد.
تعتقد سلمى أن الدين الإسلامي هو أكثر الأديان تسامحاً، وأن المشكلة، وفقها، في المسلمين وطريقة تطبيقهم الدين. وتضيف 'مشكلتنا ليست مع المتدينين، بل مع المتشددين ومع غير المتصالحين مع دينهم'.
لا تخفي محاورتنا شوقها بين الحين والآخر إلى بعض المظاهر الدينية التي تربت عليها واحتياجها لعدة سنوات للتخلص من بعضها.
تلفت السيدة ذاتها إلى تلقي ملحدين تهديدات بالقتل دفعتهم للسفر خارج البلاد. وتختم 'أكثر تيار سياسي يقلقنا هم الإخوان المسلمون بسبب قوتهم السياسية وقدرتهم على تحويل الأردن إلى دولة دينية بينما نحارب نحن من أجل دولة مدنية'.
ملحد من عائلة مسيحية
يبادر عزيز، الذي تحدث لنا حول إلحاده، بالقول 'أفضل أن يتم تعريفي بأنني لا أدري، وهي مجموعة من الملحدين الذين لا يؤمنون ولا يكفرون بالذات الإلهية والأديان. ويضيف 'لم تكن تربيتي في صغري دينية، لكن السبب الذي جعلني ملحداً هو عدم تقبل المؤسسة الدينية التي أنتمي إليها الميول الجنسية المختلفة أو الهوية الجنسية غير المعيارية'.
عزيز، الذي ولد لعائلة أردنية مسيحية، يرى أن نسبة الملحدين من المسيحيين قد تكون أكبر مما هي معلن عنه، لو لم يكن المجتمع المسيحي أقلية. ويؤكد 'في السابق، كنت أعيش صراعاً داخلياً بين الدين والإلحاد، لكن مع مرور الوقت أصبحت أدرك توجهي الروحاني أو عدمه، وأصبحت رؤيتي لهويتي الدينية أوضح مما سبق'.
لا يستطيع عزيز تحديد عدد تقريبي للملحدين في الأردن، لكنه يؤكد أنهم في تزايد ملحوظ. ويعتبر أن النسبة الأكبر من الملحدين هي من ذوي الامتيازات، سواء كانت مادية أو تعليمية، لكنهم من كافة المناطق الأردنية، وهم غالباً من الفئة العمرية الشابة.
يعتقد عزيز أن حقوق الملحدين مهضومة في الأردن، والسبب برأيه هو أن الدستور الأردني مصاغ في كثير من بنوده بناءً على الشريعة الإسلامية، التي لا تعترف بالملحدين بصفتهم شريحة حقيقية من نسيج المجتمع الأردني، مطالباً بتغيير قوانين الزواج ليصبح مدنياً، فضلاً عن قوانين الميراث والنسب أيضاً.
إلحاد أم شك؟
يعزو الدكتور إياد قنيبي، أحد أبرز وجوه التيار السلفي في الأردن، انتشار الإلحاد إلى وجود من يبثون الأفكار التشكيكية في الدين الإسلامي والمسلمات وإقناع النشئ بأن الشك في كل شيء ظاهرة صحية تدل على سعة الأفق، وأن التمسك بالمسلّمات نوع من التزمت والتطرف الفكري.
ويقلل قنيبي من أهمية الأمر باعتبار الظاهرة ليست إلحاداً بقدر ما هي انعدام اليقين، وغياب المسلمات أو القطعيات لدى الشباب بحيث أصبح كل شيء لديهم محل شك وارتياب.
ويرى قنيبي أن المناهج التعليمية تروج لنظرية إلحادية مثل نظرية داروين حول نشوء الخلق، على أنها نظرية علمية وسط جيل من الشباب الذي يتوق إلى سماع إجابات شافية حول ما يثار تجاه الدين والعقيدة من إشكالات.
الحقوق المدنية للملحدين
تقول المحامية تغريد الدغمي إن الدستور الأردني لا يكفل حق الإعتقاد وحرية المعتقدات، بل كفل حرية ممارسة الشعائر الدينية للأديان المعترف بها في الأردن فحسب. وتعتقد أن ذلك يتناقض مع المادة السادسة من الدستور، التي تنص على 'الأردنيون أمام القانون سواء، لا تمييز بينهم على أساس العرق أو اللغة أو الدين'.
تضيف المحامية المتخصصة بالأقليات الدينية أن 'الإلحاد المقترن بإهانة الشعور الديني يعد جريمة في قانون العقوبات الأردني تصل عقوبتها إلى الحبس لمدة ثلاثة أشهر'.
وترى الدغمي أن ثمة حقوق منقوصة للملحدين في القوانين الأردنية، فهم لا يرثون ويفقدون حضانة أطفالهم، وإذا حركت دعوى ضدهم أمام المحاكم الأردنية فإن الملحد يصبح عديم الأهلية وبحاجة إلى وصي
التعليقات