عمان جو- د. تيسير المشارقة
لي الفخر أنني ولدت بريّاً في ساحة منزلنا بالقرب من درج 'سينما الكواكب' بعمان (نزلة درج جبل الجوفة) مطلع ستينات القرن الماضي. السينما تعني الحياة بالنسبة لي. وأنا من محبي الأفلام الخيالية التي لها أجنحة، أي تلك التي تمتلك من العناصر التشويقية بصرياً، بحيث تحلق عالياً بنا وبأخيلتنا. بتقديري أنني المشاهد السينمائي بامتياز. أستطيع مشاهدة مجموعة من الأفلام، الواحد تلو الآخر، دون تذمّر أو ملل. كما أنني أضع ملاحظاتي الجانبية حول كل فيلم شاهدته في دفتر خاص. كنت أحياناً أجلس وحيدا في الصالة نظراً لأزمة شباك التذاكر وشح المشاهدين.
السينما بالنسبة لي حياة غنية وزاخرة بكل ما هو جديد، ومنذ أيام طفولتي أو شبابي بقيت متعلقاً بأفلام (سينما الأهلي) في حي 'المحطة' بعمّان(الأردن). كنت هناك أزاحم الكبار والصغار لحضور الأفلام الهندية أو العربية أو أفلام الكاراتيه العنيفة.
كانت الصور المتحركة تسحرنا.
أذكر أول دخول للتلفزيون (شاشة العرض) إلى مدينة إربد كان في عام 1968. كنا ندخل إلى دار (أم خليل) العامر بالتلفزيون الأسود والأبيض لنحضر الأفلام الوثائقية عن الحرب العالمية الثانية بـ 'تعريفه واحدة'(خمس فلوس) ونشرب الشاي كتصليحة لتلك المشاهدة 'التعريفية' أيضاً. كان بيت أم خليل داراً للشاشة الفضية الصغيرة و'سينما منزلية' تلفزيونية باهظة الثمن.
وهناك قصة ترتبط بتعريفة أم خليل التلفزيونية، فعندما كنا نحلق شعرنا على الصفر في مخيم إربد بقرش واحد، كانت الحلاقة نمرة واحد تساوي قرش ونصف في المدينة. وذات يوم وقبل بدء الدوام المدرسي أخذت قرشاً ونصف من أمي لكي أحلق حلقة نمرة واحد، وطمعاً مني في حلاقة كبار (نمرة واحد للأولاد الكبار) وفي نفس الوقت دخول ديوان أم خليل، خبأت نصف القرش في صندلي وادعيت البلاهة بأني فقدت النصف قرش أمام حلاق المخيم. حلقت نمرة واحد كبّارية، ونزلت من كرسي الحلاق لتسقط التعريفة من صندلي المفرغ من الجانبين. عفا عني الحلاق المحترم وسامحني بالتعريفة التي كنت أحتاجها في حضور البرنامج التلفزيوني اليومي وأخبار فلسطين والمسلسلات التي تحدثت عن الحرب العالمية الثانية. أذكر أنني خجلت من الحلاق كثيراً وشعرت بأن شعري قد طال مترين لهذا السبب. وأذكر أنني كنت أكره حلاقة نمرة صفر منذ هزيمة 67 وكنت أحب إطالة شعري منذ ذلك التاريخ وحتى الآن.. وأذكر صوراً لي كيف كان شعري متهدلاً على كتفي، وما زلت أحب الشعر الطويل حتى يومنا هذا.
دخل جهاز التلفزيون منزلنا عام1972. وعندما هدأت الأجواء واستقرت بنا الأحوال اشترى أبي لنا تلفزيون (جي في سي) في صندوق كبير كالخزانة (تلفزيون أبو خزانة).
نصب والدي (الله يرحمه) الهوائي(الأنتين). ولكن هذه الشاشة الفضية الصغيرة لم تشف غليلنا نحن الشباب وظلت عيوننا متعلقة بالشاشة الفضية الكبرى (المخملية) من القماش في دور العرض السينمائية الكبرى.
صالة 'الحمراء' في قاع المدينة عمان (في شارع سقف السيل) كانت تجذبنا أيضاً كون بطاقات الدخول زهيدة نوعاً ما (شبيهة بثمن تذاكر سينما الأهلي)، ويحق للمشاهد شرب المرطبات وأكل الفستق السوداني وقزقزة البزر فيها بأريحية كبيرة. وكنّا نرحل إلى تلك الدور سيراً على الأقدام، لنوفر ثمن أجرة الطريق لشراء المرطبات والمكسرات التي نستهلكها بنهم في دور العرض.
سينما ريفولي، وبسمان، والرينبو، والأردن، والحسين، كانت تعد من دور السينما الراقية على جيوبنا الفقيرة. ولكننا نقوم أحياناً بالمغامرة بقروشنا القليلة إذا ما أردنا حضور فيلم كـ 'العصفور ' ليوسف شاهين، أو غيره من الأفلام السريعة (الآكشن) في حينه (مثال: صراع في جرش)، أو أفلام 'بروسلي' الخارقة.
سحبني أخي الذي يكبرني بسنوات قليلة من يدي إلى سينما الأهلي، بعد أو وجدني أعبث في الشارع وحيداً، وأذكر أول فيلم حضرته وكان من الأفلام الهندية الصارخة بالحب والانتقام وتلاه فيلم كاراتيه من النوع العنيف جداً، حتى أنني كنت أقفز من مقعدي مع كل وجبة عنف. وأخذت رجلي إلى تلك السينما، فصرت أصطحب أصدقائي وزملائي من المدرسة أو الحارة.
بعد رحيلي إلى بولندا للدراسة، ارتحلت معي هوايتي هذه. فكانت سينما الحي الطلابي(الأستوديو) محجاً لي هرباً من الضجيج الطلابي ومتاعب الدراسة. هناك تعرفت على أبرز الأفلام البولندية للمخرج اندريه فايدا، وأفلام أخرى لمن أسس ما عرف لاحقاً بـ 'المدرسة السينمائية البولندية'.
*/عمّان ـ 05/06/2020
*/د. تيسير المشارقة باحث في الدراسات الثقافية والاتصال.
عمان جو- د. تيسير المشارقة
لي الفخر أنني ولدت بريّاً في ساحة منزلنا بالقرب من درج 'سينما الكواكب' بعمان (نزلة درج جبل الجوفة) مطلع ستينات القرن الماضي. السينما تعني الحياة بالنسبة لي. وأنا من محبي الأفلام الخيالية التي لها أجنحة، أي تلك التي تمتلك من العناصر التشويقية بصرياً، بحيث تحلق عالياً بنا وبأخيلتنا. بتقديري أنني المشاهد السينمائي بامتياز. أستطيع مشاهدة مجموعة من الأفلام، الواحد تلو الآخر، دون تذمّر أو ملل. كما أنني أضع ملاحظاتي الجانبية حول كل فيلم شاهدته في دفتر خاص. كنت أحياناً أجلس وحيدا في الصالة نظراً لأزمة شباك التذاكر وشح المشاهدين.
السينما بالنسبة لي حياة غنية وزاخرة بكل ما هو جديد، ومنذ أيام طفولتي أو شبابي بقيت متعلقاً بأفلام (سينما الأهلي) في حي 'المحطة' بعمّان(الأردن). كنت هناك أزاحم الكبار والصغار لحضور الأفلام الهندية أو العربية أو أفلام الكاراتيه العنيفة.
كانت الصور المتحركة تسحرنا.
أذكر أول دخول للتلفزيون (شاشة العرض) إلى مدينة إربد كان في عام 1968. كنا ندخل إلى دار (أم خليل) العامر بالتلفزيون الأسود والأبيض لنحضر الأفلام الوثائقية عن الحرب العالمية الثانية بـ 'تعريفه واحدة'(خمس فلوس) ونشرب الشاي كتصليحة لتلك المشاهدة 'التعريفية' أيضاً. كان بيت أم خليل داراً للشاشة الفضية الصغيرة و'سينما منزلية' تلفزيونية باهظة الثمن.
وهناك قصة ترتبط بتعريفة أم خليل التلفزيونية، فعندما كنا نحلق شعرنا على الصفر في مخيم إربد بقرش واحد، كانت الحلاقة نمرة واحد تساوي قرش ونصف في المدينة. وذات يوم وقبل بدء الدوام المدرسي أخذت قرشاً ونصف من أمي لكي أحلق حلقة نمرة واحد، وطمعاً مني في حلاقة كبار (نمرة واحد للأولاد الكبار) وفي نفس الوقت دخول ديوان أم خليل، خبأت نصف القرش في صندلي وادعيت البلاهة بأني فقدت النصف قرش أمام حلاق المخيم. حلقت نمرة واحد كبّارية، ونزلت من كرسي الحلاق لتسقط التعريفة من صندلي المفرغ من الجانبين. عفا عني الحلاق المحترم وسامحني بالتعريفة التي كنت أحتاجها في حضور البرنامج التلفزيوني اليومي وأخبار فلسطين والمسلسلات التي تحدثت عن الحرب العالمية الثانية. أذكر أنني خجلت من الحلاق كثيراً وشعرت بأن شعري قد طال مترين لهذا السبب. وأذكر أنني كنت أكره حلاقة نمرة صفر منذ هزيمة 67 وكنت أحب إطالة شعري منذ ذلك التاريخ وحتى الآن.. وأذكر صوراً لي كيف كان شعري متهدلاً على كتفي، وما زلت أحب الشعر الطويل حتى يومنا هذا.
دخل جهاز التلفزيون منزلنا عام1972. وعندما هدأت الأجواء واستقرت بنا الأحوال اشترى أبي لنا تلفزيون (جي في سي) في صندوق كبير كالخزانة (تلفزيون أبو خزانة).
نصب والدي (الله يرحمه) الهوائي(الأنتين). ولكن هذه الشاشة الفضية الصغيرة لم تشف غليلنا نحن الشباب وظلت عيوننا متعلقة بالشاشة الفضية الكبرى (المخملية) من القماش في دور العرض السينمائية الكبرى.
صالة 'الحمراء' في قاع المدينة عمان (في شارع سقف السيل) كانت تجذبنا أيضاً كون بطاقات الدخول زهيدة نوعاً ما (شبيهة بثمن تذاكر سينما الأهلي)، ويحق للمشاهد شرب المرطبات وأكل الفستق السوداني وقزقزة البزر فيها بأريحية كبيرة. وكنّا نرحل إلى تلك الدور سيراً على الأقدام، لنوفر ثمن أجرة الطريق لشراء المرطبات والمكسرات التي نستهلكها بنهم في دور العرض.
سينما ريفولي، وبسمان، والرينبو، والأردن، والحسين، كانت تعد من دور السينما الراقية على جيوبنا الفقيرة. ولكننا نقوم أحياناً بالمغامرة بقروشنا القليلة إذا ما أردنا حضور فيلم كـ 'العصفور ' ليوسف شاهين، أو غيره من الأفلام السريعة (الآكشن) في حينه (مثال: صراع في جرش)، أو أفلام 'بروسلي' الخارقة.
سحبني أخي الذي يكبرني بسنوات قليلة من يدي إلى سينما الأهلي، بعد أو وجدني أعبث في الشارع وحيداً، وأذكر أول فيلم حضرته وكان من الأفلام الهندية الصارخة بالحب والانتقام وتلاه فيلم كاراتيه من النوع العنيف جداً، حتى أنني كنت أقفز من مقعدي مع كل وجبة عنف. وأخذت رجلي إلى تلك السينما، فصرت أصطحب أصدقائي وزملائي من المدرسة أو الحارة.
بعد رحيلي إلى بولندا للدراسة، ارتحلت معي هوايتي هذه. فكانت سينما الحي الطلابي(الأستوديو) محجاً لي هرباً من الضجيج الطلابي ومتاعب الدراسة. هناك تعرفت على أبرز الأفلام البولندية للمخرج اندريه فايدا، وأفلام أخرى لمن أسس ما عرف لاحقاً بـ 'المدرسة السينمائية البولندية'.
*/عمّان ـ 05/06/2020
*/د. تيسير المشارقة باحث في الدراسات الثقافية والاتصال.
عمان جو- د. تيسير المشارقة
لي الفخر أنني ولدت بريّاً في ساحة منزلنا بالقرب من درج 'سينما الكواكب' بعمان (نزلة درج جبل الجوفة) مطلع ستينات القرن الماضي. السينما تعني الحياة بالنسبة لي. وأنا من محبي الأفلام الخيالية التي لها أجنحة، أي تلك التي تمتلك من العناصر التشويقية بصرياً، بحيث تحلق عالياً بنا وبأخيلتنا. بتقديري أنني المشاهد السينمائي بامتياز. أستطيع مشاهدة مجموعة من الأفلام، الواحد تلو الآخر، دون تذمّر أو ملل. كما أنني أضع ملاحظاتي الجانبية حول كل فيلم شاهدته في دفتر خاص. كنت أحياناً أجلس وحيدا في الصالة نظراً لأزمة شباك التذاكر وشح المشاهدين.
السينما بالنسبة لي حياة غنية وزاخرة بكل ما هو جديد، ومنذ أيام طفولتي أو شبابي بقيت متعلقاً بأفلام (سينما الأهلي) في حي 'المحطة' بعمّان(الأردن). كنت هناك أزاحم الكبار والصغار لحضور الأفلام الهندية أو العربية أو أفلام الكاراتيه العنيفة.
كانت الصور المتحركة تسحرنا.
أذكر أول دخول للتلفزيون (شاشة العرض) إلى مدينة إربد كان في عام 1968. كنا ندخل إلى دار (أم خليل) العامر بالتلفزيون الأسود والأبيض لنحضر الأفلام الوثائقية عن الحرب العالمية الثانية بـ 'تعريفه واحدة'(خمس فلوس) ونشرب الشاي كتصليحة لتلك المشاهدة 'التعريفية' أيضاً. كان بيت أم خليل داراً للشاشة الفضية الصغيرة و'سينما منزلية' تلفزيونية باهظة الثمن.
وهناك قصة ترتبط بتعريفة أم خليل التلفزيونية، فعندما كنا نحلق شعرنا على الصفر في مخيم إربد بقرش واحد، كانت الحلاقة نمرة واحد تساوي قرش ونصف في المدينة. وذات يوم وقبل بدء الدوام المدرسي أخذت قرشاً ونصف من أمي لكي أحلق حلقة نمرة واحد، وطمعاً مني في حلاقة كبار (نمرة واحد للأولاد الكبار) وفي نفس الوقت دخول ديوان أم خليل، خبأت نصف القرش في صندلي وادعيت البلاهة بأني فقدت النصف قرش أمام حلاق المخيم. حلقت نمرة واحد كبّارية، ونزلت من كرسي الحلاق لتسقط التعريفة من صندلي المفرغ من الجانبين. عفا عني الحلاق المحترم وسامحني بالتعريفة التي كنت أحتاجها في حضور البرنامج التلفزيوني اليومي وأخبار فلسطين والمسلسلات التي تحدثت عن الحرب العالمية الثانية. أذكر أنني خجلت من الحلاق كثيراً وشعرت بأن شعري قد طال مترين لهذا السبب. وأذكر أنني كنت أكره حلاقة نمرة صفر منذ هزيمة 67 وكنت أحب إطالة شعري منذ ذلك التاريخ وحتى الآن.. وأذكر صوراً لي كيف كان شعري متهدلاً على كتفي، وما زلت أحب الشعر الطويل حتى يومنا هذا.
دخل جهاز التلفزيون منزلنا عام1972. وعندما هدأت الأجواء واستقرت بنا الأحوال اشترى أبي لنا تلفزيون (جي في سي) في صندوق كبير كالخزانة (تلفزيون أبو خزانة).
نصب والدي (الله يرحمه) الهوائي(الأنتين). ولكن هذه الشاشة الفضية الصغيرة لم تشف غليلنا نحن الشباب وظلت عيوننا متعلقة بالشاشة الفضية الكبرى (المخملية) من القماش في دور العرض السينمائية الكبرى.
صالة 'الحمراء' في قاع المدينة عمان (في شارع سقف السيل) كانت تجذبنا أيضاً كون بطاقات الدخول زهيدة نوعاً ما (شبيهة بثمن تذاكر سينما الأهلي)، ويحق للمشاهد شرب المرطبات وأكل الفستق السوداني وقزقزة البزر فيها بأريحية كبيرة. وكنّا نرحل إلى تلك الدور سيراً على الأقدام، لنوفر ثمن أجرة الطريق لشراء المرطبات والمكسرات التي نستهلكها بنهم في دور العرض.
سينما ريفولي، وبسمان، والرينبو، والأردن، والحسين، كانت تعد من دور السينما الراقية على جيوبنا الفقيرة. ولكننا نقوم أحياناً بالمغامرة بقروشنا القليلة إذا ما أردنا حضور فيلم كـ 'العصفور ' ليوسف شاهين، أو غيره من الأفلام السريعة (الآكشن) في حينه (مثال: صراع في جرش)، أو أفلام 'بروسلي' الخارقة.
سحبني أخي الذي يكبرني بسنوات قليلة من يدي إلى سينما الأهلي، بعد أو وجدني أعبث في الشارع وحيداً، وأذكر أول فيلم حضرته وكان من الأفلام الهندية الصارخة بالحب والانتقام وتلاه فيلم كاراتيه من النوع العنيف جداً، حتى أنني كنت أقفز من مقعدي مع كل وجبة عنف. وأخذت رجلي إلى تلك السينما، فصرت أصطحب أصدقائي وزملائي من المدرسة أو الحارة.
بعد رحيلي إلى بولندا للدراسة، ارتحلت معي هوايتي هذه. فكانت سينما الحي الطلابي(الأستوديو) محجاً لي هرباً من الضجيج الطلابي ومتاعب الدراسة. هناك تعرفت على أبرز الأفلام البولندية للمخرج اندريه فايدا، وأفلام أخرى لمن أسس ما عرف لاحقاً بـ 'المدرسة السينمائية البولندية'.
*/عمّان ـ 05/06/2020
*/د. تيسير المشارقة باحث في الدراسات الثقافية والاتصال.
التعليقات