عمان جو - قيس المناصير
بعد وفاة والدي وانا طفل لما يتجاوز عمري الثمان سنوات، لم أعرف معنى الفقد كما يعرفه الغير، كنت طفلا أكبر همومه لعبة أو أحد باكيتات السكاكر أأكله وأمضي إلى الشارع لالعب مع اجيالي
والدي كان رجل طيب، سمعته للان لم تغيب عن ذهن الجميع، كان وما زال مثال للأدب والأخلاق، مثال الثقل والرزانة، مثال للأناقة التي عرفت به وعرف بها
افتقده لليوم وانا على يقين بأن مثل هذا الشخص الان في فردوس الكريم، وفي جنات الخلود
عند فقدان والدي اذكر اللحظات الأولى عندما أتاني عمي وأخذ بيدي لبيته كي العب على جهاز الحاسوب ولكي لا اتاثر بدموعه ودموع الجميع، حقا الجميع الكبير والصغير منهم
اخذني لبيته وطبطب على اكتافي لكي لا أشعر بما يشعرون من ألم وتعب
حتى في أيام العزاء الثلاث لم أرى دمعة تهبط من عين أحدهم بحرقة عليه أكثر منه، فكنت استغرب كيف لرجل باواخر الأربعين يجلس بين السيارات ويبكي بحرقة على وفاة أخيه كي لا يراه احداً
مضت ايام قليلة ليأخذ بيدي انا واخواني ووالدتي لنسكن بجواره وليبقى بجانبنا كي لا نحتاج شيئا
لا أنسى اي يوم مضيته برفقته، ذلك العم الذي كان بطعم والد حقيقي لخمس عائلات من أعمامي الذين توفاهم الله قبله
في احدى المناسبات التي رافقته بالذهاب إليها، قال لي كلمة لا انساها، قال'والدك رجل محبوب ومعروف واتمنى ان تكون مثله بأخلاقه ورزانته وحتى باطباعه التي لا أراها فأحد كما هي لديك'
لم أدرك تلك المعاني بوقتها كما أدركها الان
وفي إحدى الايام رافقته للعمل بشركة كانت له ولابي، كان يردد حديثه كثيرا عن هذه الشركة أنها بيوم ستكون لي ولاخواني ولأبناءه وردد الكثير من الكلام على الاهتمام بها، وكأنه يوصيني منذ زمان بعيد
لم أدرك تلك المعاني كما أدركها الان
اما على مستوى الاهتمام بحقوق الناس ما كان الا راداً للحق وموصياً لعدم أكله وكأنه يقول ان من كرامة العبد وصفاته أن يكتفي بماله وبنفسه
لم يوصينا يوماً إلا على مكارم الأخلاق، ولم يكن ليوصينا على غير ذلك، كيف لا وهو الوجه البشوش الذي يحبه الجميع فمن احبه الله احبه عباده
عندما نجحت في الثانوية العامة اول شخص قد أخبرته بنجاحي هو وكأني انتظر كلمة النجاح منه وليس من علاماتي التي تتغير على الورق
كان في حينها في أوج انبساطه وانا على يقين بأن فرحته حينها لا تضاهي شيئاً، كانت تصل السماء بدعوات الحمد والشكر لله سبحانه وتعالى
وعند اختياري للتخصص جلست بجانبه في منزله وأخبرته بأني اريد ان ادرس الصحافة والإعلام، في البداية كان معارض لتوجهي وقال 'اريد ان تدرس المحاسبة لتساند شركتك المستقبلية'
فكرت كثيراً قبل أن اجيبه بأني لن أقول لك كلمة لا ما حييت ولكن هذا ما حلمت به وساقوم بتلبية طلبك وادرس ما تريد وأرجو منك عدم لومي على العلامات المتدنية التي ستكون برحلتي الجامعية
وما اجابني الا ان طموحك انت تحدده ادرس ما تريد وسأكون فخورا بك
في أول فصل لي في الجامعة كل ذهني وفكري كيف سأثبت لعمي بأني قادراً على تحقيق حلمي واوظفه في الحلم الذي هو يريده
عند ظهور علامات اول فصل اتصلت به مباشرة وأخبرته بها ليجيبني ب 'عفيا عليك هيك ودي إياك'
يتكرر هذا الشعور في كل فصل من فصول الجامعة وفي كل مادة، كل تفكيري بكيف سافرح عمي ووالدتي الذان لم يناما يوماً وتغمض عيونهم الا وهم يتمنون لنا الخير والبركة
لأصل للفصل الذي يسبق الأخير لاعد مشروع تخرجي الذي كان عن موضوع الذي لا احسبه واعتبره الا موضوع قومي كما كان يعلمني دوما عن حبه للوطن والقومية العربية، فكان في أغلب الأوقات يتحدث لي عن المواقف العربية وعلى وجه الخصوص الحديث عن الرئيس الراحل صدام حسين.
من حديثه المستمر خطرت ببالي فكرة اتفاقية الغاز مع العدو الصهيوني والاتفاقية التي سلبت الحق الفلسطيني وغازه المسروق وشراء الاردن من هذا الغاز
عملت على هذا المشروع وانهيته وكان أول المعزومين لمناقشة هذا المشروع في الجامعة، فرحته التي تبينت في عيونه لا تنسى
ولا حتى فخره بابن أخيه الذي رباه، وكأنها تقول ان جهدي في الخمس عشر سنة لم يذهب مكب الريح، طريقة حواره مع اساتذتي بالجامعة قبل البدء بمناقشة مشروعي لا تغيب عن عيني للان فهي تقول للعالم أجمع أن مبادئنا لن تذهب مهما كبرنا وها نحن نورثها للأجيال
حتى عندما خرجت من مناقشتي وكان الجميع يستقبلني بفرح وغناء، كانت ضحكته ترسم فرحة لا مثيل لها، والله لا تنسى تلك الضحكة
وعندما تخرجت وانهيت جميع متطلبات التخرج أخبرته بأني أنهيت دراستي، ليعطيني مبلغ من المال ويقول لي 'والله تستحق الأكثر' ولكن لم يكن يعلم أن بداخلي كلمات تقول له 'انت تستحق أكثر من هذه الهدية'
في الأيام الاخيرة
في أوائل شهر رمضان اتصلت به وقلت له بأني اريد ان نفطر في شهر رمضان المبارك معاً ككل عام، فوجبتي معه هي من تذهب ظمأ ايامي، ولهفة عيدي فيكفي أنني أأكل وجبتي مع رائحة والدي، وحنية عمي، وراحة وأمان لا تضاهي شيئا
في اليوم المقرر أن نفطر معاِ ذهبت له قبل وقت الفطور بكثير، ما يقارب الثلاث ساعات وصلينا العصر معاً وجلسنا جلسة غريبة، لم ينتابني شعور بها إلا مرة واحدة، وهي عند قراءتي لأحد منشوارته على موقع التواصل الاجتماعي 'فيس بوك' والذي كتب فيه أنه ينوي صيام الشهر الكريم طالبا من الله انه بحال توفاه بهذا الشهر ان يكتبه مع الصائمين
جلسة غريبة والله لا توصف ولا بأي كلمة ولا يعطى حقها كما هي لو مهما تحدثت
جلسة دامت لأكثر من ساعة كانت سلسة وصاية لا تنسى، أولها والدتي وثانيها آخوتي جميعهم دون استثناء، ليلحقها بوصية على العمل الذي بناه ووالدي على مدار عقود مضت
ولم ينهي حديثه الا بدعاوى لي ليقول 'الله يحميك من عيون الناس، الله يوفقك انت شخص ناجح وراح تنجح مشالله عليك، بتحب تخصصك وراح تبدع فيه، والشركة ديرو بالكو عليها'
دموعي تكتب كلماتي واقلامي ارتجفت على أوراقي ولم تكتب ما يعطيه حقه لو كانت مجلدات مصفوفة
والان وفي الشهر الكريم اتجرع من جديد كأس اليتم، وارشفه بدموع لا يفهمها أحد ولا يدركها مخلوقاً على وجه هذه الأرض
الان نمضي دونه في هذه الحياة التي بات يوصينا فيها، والان نمضي دون الصدر الرؤوم والأب الحاني والكتف الذي نستند عليه
إلى روح عمي الطاهرة الذي ذهبت لوجه بارئها مستبشرة ضاحكة وكأنها مدركة أن الحياة كانت محطة قصيرة جداً نقطع بها تذكرة حياة أبدية
إلى روح عمي الطاهرة.. نم قرير العين مرتاح البال واوصل سلامنا لمن سبقوك، فأسمهم سيبقى عالياِ كما كنتم تحبون، وأخبرهم بأننا بهم لاحقون وبسمعة كما أرادوها
عمان جو - قيس المناصير
بعد وفاة والدي وانا طفل لما يتجاوز عمري الثمان سنوات، لم أعرف معنى الفقد كما يعرفه الغير، كنت طفلا أكبر همومه لعبة أو أحد باكيتات السكاكر أأكله وأمضي إلى الشارع لالعب مع اجيالي
والدي كان رجل طيب، سمعته للان لم تغيب عن ذهن الجميع، كان وما زال مثال للأدب والأخلاق، مثال الثقل والرزانة، مثال للأناقة التي عرفت به وعرف بها
افتقده لليوم وانا على يقين بأن مثل هذا الشخص الان في فردوس الكريم، وفي جنات الخلود
عند فقدان والدي اذكر اللحظات الأولى عندما أتاني عمي وأخذ بيدي لبيته كي العب على جهاز الحاسوب ولكي لا اتاثر بدموعه ودموع الجميع، حقا الجميع الكبير والصغير منهم
اخذني لبيته وطبطب على اكتافي لكي لا أشعر بما يشعرون من ألم وتعب
حتى في أيام العزاء الثلاث لم أرى دمعة تهبط من عين أحدهم بحرقة عليه أكثر منه، فكنت استغرب كيف لرجل باواخر الأربعين يجلس بين السيارات ويبكي بحرقة على وفاة أخيه كي لا يراه احداً
مضت ايام قليلة ليأخذ بيدي انا واخواني ووالدتي لنسكن بجواره وليبقى بجانبنا كي لا نحتاج شيئا
لا أنسى اي يوم مضيته برفقته، ذلك العم الذي كان بطعم والد حقيقي لخمس عائلات من أعمامي الذين توفاهم الله قبله
في احدى المناسبات التي رافقته بالذهاب إليها، قال لي كلمة لا انساها، قال'والدك رجل محبوب ومعروف واتمنى ان تكون مثله بأخلاقه ورزانته وحتى باطباعه التي لا أراها فأحد كما هي لديك'
لم أدرك تلك المعاني بوقتها كما أدركها الان
وفي إحدى الايام رافقته للعمل بشركة كانت له ولابي، كان يردد حديثه كثيرا عن هذه الشركة أنها بيوم ستكون لي ولاخواني ولأبناءه وردد الكثير من الكلام على الاهتمام بها، وكأنه يوصيني منذ زمان بعيد
لم أدرك تلك المعاني كما أدركها الان
اما على مستوى الاهتمام بحقوق الناس ما كان الا راداً للحق وموصياً لعدم أكله وكأنه يقول ان من كرامة العبد وصفاته أن يكتفي بماله وبنفسه
لم يوصينا يوماً إلا على مكارم الأخلاق، ولم يكن ليوصينا على غير ذلك، كيف لا وهو الوجه البشوش الذي يحبه الجميع فمن احبه الله احبه عباده
عندما نجحت في الثانوية العامة اول شخص قد أخبرته بنجاحي هو وكأني انتظر كلمة النجاح منه وليس من علاماتي التي تتغير على الورق
كان في حينها في أوج انبساطه وانا على يقين بأن فرحته حينها لا تضاهي شيئاً، كانت تصل السماء بدعوات الحمد والشكر لله سبحانه وتعالى
وعند اختياري للتخصص جلست بجانبه في منزله وأخبرته بأني اريد ان ادرس الصحافة والإعلام، في البداية كان معارض لتوجهي وقال 'اريد ان تدرس المحاسبة لتساند شركتك المستقبلية'
فكرت كثيراً قبل أن اجيبه بأني لن أقول لك كلمة لا ما حييت ولكن هذا ما حلمت به وساقوم بتلبية طلبك وادرس ما تريد وأرجو منك عدم لومي على العلامات المتدنية التي ستكون برحلتي الجامعية
وما اجابني الا ان طموحك انت تحدده ادرس ما تريد وسأكون فخورا بك
في أول فصل لي في الجامعة كل ذهني وفكري كيف سأثبت لعمي بأني قادراً على تحقيق حلمي واوظفه في الحلم الذي هو يريده
عند ظهور علامات اول فصل اتصلت به مباشرة وأخبرته بها ليجيبني ب 'عفيا عليك هيك ودي إياك'
يتكرر هذا الشعور في كل فصل من فصول الجامعة وفي كل مادة، كل تفكيري بكيف سافرح عمي ووالدتي الذان لم يناما يوماً وتغمض عيونهم الا وهم يتمنون لنا الخير والبركة
لأصل للفصل الذي يسبق الأخير لاعد مشروع تخرجي الذي كان عن موضوع الذي لا احسبه واعتبره الا موضوع قومي كما كان يعلمني دوما عن حبه للوطن والقومية العربية، فكان في أغلب الأوقات يتحدث لي عن المواقف العربية وعلى وجه الخصوص الحديث عن الرئيس الراحل صدام حسين.
من حديثه المستمر خطرت ببالي فكرة اتفاقية الغاز مع العدو الصهيوني والاتفاقية التي سلبت الحق الفلسطيني وغازه المسروق وشراء الاردن من هذا الغاز
عملت على هذا المشروع وانهيته وكان أول المعزومين لمناقشة هذا المشروع في الجامعة، فرحته التي تبينت في عيونه لا تنسى
ولا حتى فخره بابن أخيه الذي رباه، وكأنها تقول ان جهدي في الخمس عشر سنة لم يذهب مكب الريح، طريقة حواره مع اساتذتي بالجامعة قبل البدء بمناقشة مشروعي لا تغيب عن عيني للان فهي تقول للعالم أجمع أن مبادئنا لن تذهب مهما كبرنا وها نحن نورثها للأجيال
حتى عندما خرجت من مناقشتي وكان الجميع يستقبلني بفرح وغناء، كانت ضحكته ترسم فرحة لا مثيل لها، والله لا تنسى تلك الضحكة
وعندما تخرجت وانهيت جميع متطلبات التخرج أخبرته بأني أنهيت دراستي، ليعطيني مبلغ من المال ويقول لي 'والله تستحق الأكثر' ولكن لم يكن يعلم أن بداخلي كلمات تقول له 'انت تستحق أكثر من هذه الهدية'
في الأيام الاخيرة
في أوائل شهر رمضان اتصلت به وقلت له بأني اريد ان نفطر في شهر رمضان المبارك معاً ككل عام، فوجبتي معه هي من تذهب ظمأ ايامي، ولهفة عيدي فيكفي أنني أأكل وجبتي مع رائحة والدي، وحنية عمي، وراحة وأمان لا تضاهي شيئا
في اليوم المقرر أن نفطر معاِ ذهبت له قبل وقت الفطور بكثير، ما يقارب الثلاث ساعات وصلينا العصر معاً وجلسنا جلسة غريبة، لم ينتابني شعور بها إلا مرة واحدة، وهي عند قراءتي لأحد منشوارته على موقع التواصل الاجتماعي 'فيس بوك' والذي كتب فيه أنه ينوي صيام الشهر الكريم طالبا من الله انه بحال توفاه بهذا الشهر ان يكتبه مع الصائمين
جلسة غريبة والله لا توصف ولا بأي كلمة ولا يعطى حقها كما هي لو مهما تحدثت
جلسة دامت لأكثر من ساعة كانت سلسة وصاية لا تنسى، أولها والدتي وثانيها آخوتي جميعهم دون استثناء، ليلحقها بوصية على العمل الذي بناه ووالدي على مدار عقود مضت
ولم ينهي حديثه الا بدعاوى لي ليقول 'الله يحميك من عيون الناس، الله يوفقك انت شخص ناجح وراح تنجح مشالله عليك، بتحب تخصصك وراح تبدع فيه، والشركة ديرو بالكو عليها'
دموعي تكتب كلماتي واقلامي ارتجفت على أوراقي ولم تكتب ما يعطيه حقه لو كانت مجلدات مصفوفة
والان وفي الشهر الكريم اتجرع من جديد كأس اليتم، وارشفه بدموع لا يفهمها أحد ولا يدركها مخلوقاً على وجه هذه الأرض
الان نمضي دونه في هذه الحياة التي بات يوصينا فيها، والان نمضي دون الصدر الرؤوم والأب الحاني والكتف الذي نستند عليه
إلى روح عمي الطاهرة الذي ذهبت لوجه بارئها مستبشرة ضاحكة وكأنها مدركة أن الحياة كانت محطة قصيرة جداً نقطع بها تذكرة حياة أبدية
إلى روح عمي الطاهرة.. نم قرير العين مرتاح البال واوصل سلامنا لمن سبقوك، فأسمهم سيبقى عالياِ كما كنتم تحبون، وأخبرهم بأننا بهم لاحقون وبسمعة كما أرادوها
عمان جو - قيس المناصير
بعد وفاة والدي وانا طفل لما يتجاوز عمري الثمان سنوات، لم أعرف معنى الفقد كما يعرفه الغير، كنت طفلا أكبر همومه لعبة أو أحد باكيتات السكاكر أأكله وأمضي إلى الشارع لالعب مع اجيالي
والدي كان رجل طيب، سمعته للان لم تغيب عن ذهن الجميع، كان وما زال مثال للأدب والأخلاق، مثال الثقل والرزانة، مثال للأناقة التي عرفت به وعرف بها
افتقده لليوم وانا على يقين بأن مثل هذا الشخص الان في فردوس الكريم، وفي جنات الخلود
عند فقدان والدي اذكر اللحظات الأولى عندما أتاني عمي وأخذ بيدي لبيته كي العب على جهاز الحاسوب ولكي لا اتاثر بدموعه ودموع الجميع، حقا الجميع الكبير والصغير منهم
اخذني لبيته وطبطب على اكتافي لكي لا أشعر بما يشعرون من ألم وتعب
حتى في أيام العزاء الثلاث لم أرى دمعة تهبط من عين أحدهم بحرقة عليه أكثر منه، فكنت استغرب كيف لرجل باواخر الأربعين يجلس بين السيارات ويبكي بحرقة على وفاة أخيه كي لا يراه احداً
مضت ايام قليلة ليأخذ بيدي انا واخواني ووالدتي لنسكن بجواره وليبقى بجانبنا كي لا نحتاج شيئا
لا أنسى اي يوم مضيته برفقته، ذلك العم الذي كان بطعم والد حقيقي لخمس عائلات من أعمامي الذين توفاهم الله قبله
في احدى المناسبات التي رافقته بالذهاب إليها، قال لي كلمة لا انساها، قال'والدك رجل محبوب ومعروف واتمنى ان تكون مثله بأخلاقه ورزانته وحتى باطباعه التي لا أراها فأحد كما هي لديك'
لم أدرك تلك المعاني بوقتها كما أدركها الان
وفي إحدى الايام رافقته للعمل بشركة كانت له ولابي، كان يردد حديثه كثيرا عن هذه الشركة أنها بيوم ستكون لي ولاخواني ولأبناءه وردد الكثير من الكلام على الاهتمام بها، وكأنه يوصيني منذ زمان بعيد
لم أدرك تلك المعاني كما أدركها الان
اما على مستوى الاهتمام بحقوق الناس ما كان الا راداً للحق وموصياً لعدم أكله وكأنه يقول ان من كرامة العبد وصفاته أن يكتفي بماله وبنفسه
لم يوصينا يوماً إلا على مكارم الأخلاق، ولم يكن ليوصينا على غير ذلك، كيف لا وهو الوجه البشوش الذي يحبه الجميع فمن احبه الله احبه عباده
عندما نجحت في الثانوية العامة اول شخص قد أخبرته بنجاحي هو وكأني انتظر كلمة النجاح منه وليس من علاماتي التي تتغير على الورق
كان في حينها في أوج انبساطه وانا على يقين بأن فرحته حينها لا تضاهي شيئاً، كانت تصل السماء بدعوات الحمد والشكر لله سبحانه وتعالى
وعند اختياري للتخصص جلست بجانبه في منزله وأخبرته بأني اريد ان ادرس الصحافة والإعلام، في البداية كان معارض لتوجهي وقال 'اريد ان تدرس المحاسبة لتساند شركتك المستقبلية'
فكرت كثيراً قبل أن اجيبه بأني لن أقول لك كلمة لا ما حييت ولكن هذا ما حلمت به وساقوم بتلبية طلبك وادرس ما تريد وأرجو منك عدم لومي على العلامات المتدنية التي ستكون برحلتي الجامعية
وما اجابني الا ان طموحك انت تحدده ادرس ما تريد وسأكون فخورا بك
في أول فصل لي في الجامعة كل ذهني وفكري كيف سأثبت لعمي بأني قادراً على تحقيق حلمي واوظفه في الحلم الذي هو يريده
عند ظهور علامات اول فصل اتصلت به مباشرة وأخبرته بها ليجيبني ب 'عفيا عليك هيك ودي إياك'
يتكرر هذا الشعور في كل فصل من فصول الجامعة وفي كل مادة، كل تفكيري بكيف سافرح عمي ووالدتي الذان لم يناما يوماً وتغمض عيونهم الا وهم يتمنون لنا الخير والبركة
لأصل للفصل الذي يسبق الأخير لاعد مشروع تخرجي الذي كان عن موضوع الذي لا احسبه واعتبره الا موضوع قومي كما كان يعلمني دوما عن حبه للوطن والقومية العربية، فكان في أغلب الأوقات يتحدث لي عن المواقف العربية وعلى وجه الخصوص الحديث عن الرئيس الراحل صدام حسين.
من حديثه المستمر خطرت ببالي فكرة اتفاقية الغاز مع العدو الصهيوني والاتفاقية التي سلبت الحق الفلسطيني وغازه المسروق وشراء الاردن من هذا الغاز
عملت على هذا المشروع وانهيته وكان أول المعزومين لمناقشة هذا المشروع في الجامعة، فرحته التي تبينت في عيونه لا تنسى
ولا حتى فخره بابن أخيه الذي رباه، وكأنها تقول ان جهدي في الخمس عشر سنة لم يذهب مكب الريح، طريقة حواره مع اساتذتي بالجامعة قبل البدء بمناقشة مشروعي لا تغيب عن عيني للان فهي تقول للعالم أجمع أن مبادئنا لن تذهب مهما كبرنا وها نحن نورثها للأجيال
حتى عندما خرجت من مناقشتي وكان الجميع يستقبلني بفرح وغناء، كانت ضحكته ترسم فرحة لا مثيل لها، والله لا تنسى تلك الضحكة
وعندما تخرجت وانهيت جميع متطلبات التخرج أخبرته بأني أنهيت دراستي، ليعطيني مبلغ من المال ويقول لي 'والله تستحق الأكثر' ولكن لم يكن يعلم أن بداخلي كلمات تقول له 'انت تستحق أكثر من هذه الهدية'
في الأيام الاخيرة
في أوائل شهر رمضان اتصلت به وقلت له بأني اريد ان نفطر في شهر رمضان المبارك معاً ككل عام، فوجبتي معه هي من تذهب ظمأ ايامي، ولهفة عيدي فيكفي أنني أأكل وجبتي مع رائحة والدي، وحنية عمي، وراحة وأمان لا تضاهي شيئا
في اليوم المقرر أن نفطر معاِ ذهبت له قبل وقت الفطور بكثير، ما يقارب الثلاث ساعات وصلينا العصر معاً وجلسنا جلسة غريبة، لم ينتابني شعور بها إلا مرة واحدة، وهي عند قراءتي لأحد منشوارته على موقع التواصل الاجتماعي 'فيس بوك' والذي كتب فيه أنه ينوي صيام الشهر الكريم طالبا من الله انه بحال توفاه بهذا الشهر ان يكتبه مع الصائمين
جلسة غريبة والله لا توصف ولا بأي كلمة ولا يعطى حقها كما هي لو مهما تحدثت
جلسة دامت لأكثر من ساعة كانت سلسة وصاية لا تنسى، أولها والدتي وثانيها آخوتي جميعهم دون استثناء، ليلحقها بوصية على العمل الذي بناه ووالدي على مدار عقود مضت
ولم ينهي حديثه الا بدعاوى لي ليقول 'الله يحميك من عيون الناس، الله يوفقك انت شخص ناجح وراح تنجح مشالله عليك، بتحب تخصصك وراح تبدع فيه، والشركة ديرو بالكو عليها'
دموعي تكتب كلماتي واقلامي ارتجفت على أوراقي ولم تكتب ما يعطيه حقه لو كانت مجلدات مصفوفة
والان وفي الشهر الكريم اتجرع من جديد كأس اليتم، وارشفه بدموع لا يفهمها أحد ولا يدركها مخلوقاً على وجه هذه الأرض
الان نمضي دونه في هذه الحياة التي بات يوصينا فيها، والان نمضي دون الصدر الرؤوم والأب الحاني والكتف الذي نستند عليه
إلى روح عمي الطاهرة الذي ذهبت لوجه بارئها مستبشرة ضاحكة وكأنها مدركة أن الحياة كانت محطة قصيرة جداً نقطع بها تذكرة حياة أبدية
إلى روح عمي الطاهرة.. نم قرير العين مرتاح البال واوصل سلامنا لمن سبقوك، فأسمهم سيبقى عالياِ كما كنتم تحبون، وأخبرهم بأننا بهم لاحقون وبسمعة كما أرادوها
التعليقات