عمان جو - رصد
قبل عشرين عامًا، نضجت لدى السياسي الأردني من أصول فلسطينية، والسفير والوزير والنائب ورئيس الوزراء، ورئيس مجلسَي النواب والأعيان، طاهر المصري، فكرة كتابة مذكّراته، وهي غير يومياته المكتوبة بخط يده، والتي لا يزال يحتفظ بها. دخلت هذه الفكرة حيّز التنفيذ منذ عام 2007، عندما بدأ تدوينها مع الصحافي وليد حسني زهرة، لينتهي منها بعد 14 عامًا.
ظل المصري، بعد أن غادر آخر مواقعه الرسمية رئيسًا لمجلس الأعيان، في أكتوبر/ تشرين الأول 2013، منشغلًا بالشأن الوطني العام، وهو ما قد يشكّل مبرّرًا مقبولًا، وإنْ غير كافٍ، لتفسير المدى الزمني الذي استغرقته عملية الكتابة، والتي بالضرورة تأثرت بالمستجدّات السياسية التي طرأت خلال هذه الفترة، وإعادة التفكير في تجربة صاحب المذكّرات وتقييمها. كذلك لم يوضح لنا المصري سبب تفضيله كتابة مذكّرات، وليس نشر يوميات حدّثنا عن وجودها، وأكد أنه يحتفظ بها، والتي تكمن أهميتها في أنها كتبت بالتزامن مع حدوث الوقائع، في حين أن المذكّرات تعيد قراءة التاريخ بأثر رجعي، وحكمة قد تكون متأخرة، إذ تتأثر روايتها بتبدّل رؤية كاتبها، وما آلت إليه الأحداث.
حملت مذكّرات طاهر المصري عنوان 'الحقيقة بيضاء' (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2021)، وجاءت في 830 صفحة، موزّعة على مجلدين، حمل غلاف الأول صورته في شبابه، في حين حمل غلاف الثاني صورته الحالية، وضمّهما صندوق كرتوني ضمن طبعة أنيقة، أما لغة الخطاب فجاءت سلسة ومباشرة وواضحة.
كان المألوف في الأردن أن ينشر قادة سياسيون، أغلبهم من صفوف المعارضة، مذكّراتهم. أما الرسميون فيلتزمون الصمت غالبًا، إلى أن تغيّر الحال في الأعوام الأربعة الماضية. وبنشر 'الحقيقة بيضاء'، ينضم المصري إلى سياسيين أردنيين سابقين نشروا يومياتهم أو مذكراتهم، فقد صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 'يوميات عدنان أبو عودة 1970-1988' عام 2018، ويوميات أكرم زعيتر 'سنوات الأزمة 1967-1970'، عام 2019. في حين نشر المركز في هذا العام (2021) أربعة كتب أخرى، حيث أكمل نشر يوميات أكرم زعيتر بين عامي 1949 و1965، في جزئين، بعنوان 'آمال الوحدة وآلام الانقسام'، ونشر يوميات عارف العارف 'في إمارة شرق الأردن 1926-1929'، و'المستدرك في يوميات عدنان أبو عودة: الأرض والزمن ومساعي السلام'. كما نشر ثلاثة رؤساء وزراء سابقين مذكراتهم، وهم: زيد بن شاكر الذي دونت مذكّراته أرملته نوزاد الساطي، وحملت عنوان 'الأمير زيد بن شاكر من السلاح إلى الانفتاح' (المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2019)، وفايز الطراونة وكتابه 'في خدمة العهدين'، (الآن ناشرون وموزعون، عمّان، 2019)، ومضر بدران وكتابه 'القرار'، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2020). وكان عبد السلام المجالي قد أصدر 'رحلة العمر .. من بيت الشعر إلى سدة الحكم' (دار المطبوعات والنشر، بيروت، 2003). وهناك مذكّرات الشريف فواز شرف 'صحب الناس قبلنا ذا الزمان: أوراق الشريف فواز، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2021).
وغني عن القول إن القيمة العلمية والتاريخية لما نُشر من مذكّرات ويوميات كانت متفاوتة، تبعًا لدقة كاتبها، وجرأته، ومدى رغبته في الإفصاح عمّا يعرفه وقدرته على ذلك، إلا أنها في المحصلة العامة قد كشفت الكثير مما كان يُعتبر أسرارًا، وتطرّقت إلى تفاصيل الحياة السياسية في الأردن، وكيفية إدارتها، وعلاقاته الخارجية، وتوازناته الداخلية، وأثارت جدلًا بين المهتمين بالشأن العام، الأمر الذي قد يشجع على نشر مذكرات ويوميات جديدة.
تمثّل مذكرات طاهر المصري امتدادًا لسيرة عائلته النابلسية، حيث عاش في طفولته أجواء زيارة الملك عبد الله الأول، ولاحقًا الملك حسين إلى منازل عائلته التي اشتغلت بالتجارة والسياسة في آن، فقد كان عمّه الحاج معزوز رئيسًا للبلدية، وعمّه حكمت رئيسًا لمجلس النواب، ومن أقطاب الحزب الوطني الاشتراكي الذي تزعّمه سليمان النابلسي، وما لبث أن وضع حكمت المصري تحت الإقامة الجبرية بعد حل المجلس عام 1957، في حين اعتُقل نشأت، والد طاهر، في العام نفسه، ثلاثة أشهر، بتهمة شتم الملك، وشملت الاعتقالات أيضًا عمّه نايف، وعددًا من رجالات المدينة. ويشبّه طاهر إقالة عمّه حكمت بإقالته هو من مجلس النواب لاحقًا، إذ قيل عن كليهما إنهما 'ملتزمان برأي مستقل وحرّ لا يناسب المرحلة'.
بعد عمل دام سبعة أعوام في البنك المركزي الأردني، انتُخب طاهر، عام 1973، نائبًا عن مقعد نابلس في مجلس النواب الأردني، بموجب تعديل دستوري سمح للمجلس ذاته أن ينتخب أعضاء المقاعد الشاغرة في الدوائر الانتخابية، نظرًا إلى ظروف الاحتلال الإسرائيلي. وهنا، بدأت حياته السياسية، بعد أن استشار عائلته فوافقت، بينما عارض ذلك عمّه حكمت الذي رأى أن أجواء الضفة الغربية لا تساعد في دخول البرلمان الأردني بسبب أحداث أيلول 1970، وعارضه طاهر الذي رأى أنها 'لم تكن حربًا أهلية بقدر ما هي أخطاء يجب تجاوزها، وعدم التوقف عندها'، وهو ما دفع أبناء عمومته إلى اتهامه بوطنيته.
مضى 24 يوما فقط على كونه نائبًا، ثم عُيّن وزيرًا في حكومة زيد الرفاعي، مبرّرًا هذا الاختيار بأنه كان حرصًا من الرفاعي على تشكيل حكومة لها وجه فلسطيني من خلال توزير عدد ممن لهم جذور عائلية ممتدّة في المجتمع الفلسطيني. عُيّن المصري وزيرًا لشؤون الأرض المحتلة التي تحوّلت من مكتب إلى وزارة مستقلة، وخلال عمله، بدأ ينقل إلى الملك حسين معاناة أهل الضفة الغربية من تصرّفات الحكومة، 'وقد بقيت هذه المعاناة متواصلة، وشبه دائمة، قبل قرار فك الارتباط بالضفة الغربية وبعده'. وخلال حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، أيّد المصري قرار الحكومة الأردنية الاكتفاء بإرسال قوة من الجيش الأردني إلى الجبهة السورية، وعدم فتح الجبهة الأردنية، وهو الموقف الذي أدّى إلى استقالة ثلاثة وزراء. ولاحقًا لم ينجح الأردن بتحقيق فك الارتباط على الجبهة الأردنية أُسوة بسورية ومصر، إذ لم تنظر سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى الضفة الغربية على أنها أرض محتلة، وإنما أراض متنازع عليها. ويذكُر المصري أن قرارات قمّة الرباط عام 1974 اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد جاء تتويجًا للجهد العربي الذي استمرّ منذ قمة الجزائر عام 1973، وأن مهندس هذه التحرّكات هو الملك الحسن الثاني 'المتهم أصلًا بأنه كان ينفذ مخطّط كيسنجر'، وزير الخارجية الأميركي في حينه، بمشاركة من الرئيس أنور السادات والملك فيصل، معتقدًا أن الدول العربية كانت 'تريد الانفكاك تدريجيًا من مسؤولياتها الفلسطينية'، عبر تسليم القضية إلى منظمة التحرير. وقد كان المصري عضوًا في الوفد الأردني المشارك في القمّة، لكنه لم يكن يعرف 'ملابسات أو تفاصيل أو خبايا هذه العلاقات'.
بعد القمّة العربية، أُخرج الوزراء المحسوبون على الضفة الغربية، وأُلغيت وزارة شؤون الأرض المحتلة، وتم تجميد مجلس النواب، وأُلّفت حكومة جديدة ضمت سبعة وزراء فقط من أصول فلسطينية، بدلًا من أن يتوزّع الوزراء فيها مناصفة بين الضفتين، كما جرى التقليد سابقًا. وبذلك خرج المصري من الوزارة، ليعمل في السلك الدبلوماسي سفيرًا في إسبانيا، ومن ثم في فرنسا ومنظمة يونسكو، ولندن. وبعد ثمانية أعوام أمضاها سفيرًا، أصبح وزيرًا للخارجية في حكومة أحمد عبيدات، عام 1983، موضحًا بجلاء أن 'تأثير وزير الخارجية وصلاحياته أقل مما يتخيله البعض، فمنذ ذلك الوقت وقبله وبعده، فإن الملك هو الذي يدير السياسة الخارجية'. ويعترف طاهر المصري بأنه لم يكن جزءًا فاعلًا في المطبخ السياسي الذي كان يدير شؤون البلد مع الملك حسين، والذي ضمّ عدنان أبو عودة، ومروان القاسم، وزيد بن شاكر، لكنه بدأ يشعر تدريجيًا أنه 'أصبح جزءًا من صناعة السياسة الخارجية الأردنية'، وبدأت علاقةٌ حقيقيةٌ تنمو بينه وبين الملك حسين.
يعتقد طاهر المصري أن أحمد عبيدات لم يؤدِ دورًا في أثناء الاتصالات حول الاتفاق الأردني – الفلسطيني، وترك الأمر لعدنان أبو عودة ومروان القاسم، وأن عبيدات كانت له تحفّظات على الاتفاق، ولم يكن يريد توسيع دائرة العلاقات بين المنظمة والأردن، ما أدّى، إلى جانب خلافات مع مسؤولين بارزين، مثل قائد الجيش زيد بن شاكر وعلي غندور، إلى إقالته لاحقًا. ولعل ذلك جزء من الحقيقة التي يرويها المصري، أما بقية القصة فتتعلق برغبة الملك في عودة العلاقات مع سورية، مسارا بديلا عن علاقته مع المنظمة التي عجزت عن تلبية الشروط الأميركية للانضمام إلى عملية السلام، ولذا تولّى زيد الرفاعي تأليف حكومة جديدة، حافظ فيها المصري على موقعه وزيرًا للخارجية. وهو يحدّثنا هنا عن رواياتٍ مألوفة، مثل رسالة الاعتذار التي وجهها الملك إلى الرئيس حافظ الأسد، معترفًا فيها 'بتورّط الأردن في أعمال عنف داخل سورية'، والتي يبدو أنها كانت شرطًا لعودة العلاقات الأردنية - السورية، ولاحقا أُعلن عن انهيار الاتفاق الأردني – الفلسطيني. ويذكُر المصري معارضته الخطوات الأردنية التي أعقبت ذلك، مثل إغلاق مكاتب المنظمة، وطرد خليل الوزير (أبو جهاد)، ومسرحية انشقاق عطا الله عطالله (أبو الزعيم) عن ياسر عرفات في عمّان.
يوازي المصري بين تحسّن علاقته مع قيادات منظمة التحرير وقربه من الملك حسين، لكنه يشير إلى انزعاج عرفات من شخصٍ مثله، 'يتمتع بمكانة سياسية جيدة في الأردن، وقريب من الملك، وله خلفيته العائلية في فلسطين، وما تتمتّع به من نفوذ في الضفة'، فقد كان عرفات يظن أن المصري، أو غيره، سيحلّ محله، إلى درجة أنه اعتبر انتخاب المصري رئيسًا لمجلس النواب عام 1993، بعد توقيع اتفاق أوسلو، 'خطوةً من الأردن لاستعادة النفوذ في الضفة الغربية'. وكانت هذه الشكوك والمخاوف متبادلة بين المنظمة والأردن، فبعد إلغاء الاتفاق الأردني – الفلسطيني، كان المصري رفقة الملك حسين في لندن، حين التقى الملك، في العام 1987، برئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه، شيمون بيريس، الذي صحبه يوسي بيلين، في حين كان زيد الرفاعي مع الملك في منزل اللورد ميتشكوم، ولم يحضر المصري اللقاء الذي نتج عنه اتفاق عُرف بـ 'ورقة بيريس- الحسين'. وبحسبها كان الجانبان ينويان إعادة الضفة الغربية إلى 'إدارة المملكة الأردنية الهاشمية بشكل جزئي أو كامل'، إذ كان من ضمن مخططات زيد الرفاعي قبول الأردن 'بمشروع حكم ذاتي واسع، كخطوة أولى لتحقيق الانسحاب الإسرائيلي'، وهي مشاريع تكرّرت منذ اتفاق كامب ديفيد إلى 'اتفاق بيريس – الحسين'، وصولًا إلى اتفاق أوسلو، مع اختلاف في الممثلين على المسرح ذاته.
يتألم المصري من قرار الأردن فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية، وعارضه 'لأسباب وطنية وقومية، ولأسباب شخصية، إذ لم يعلم به إلا عبر خطاب الملك في التلفزيون الأردني'. ويعتبر أن أحد الأسباب الرئيسة التي أدّت إليه 'خوف النظام الأردني من تداعيات الانتفاضة، كثورة شعبية يراها الشارع العربي لأول مرة'. لكنه لم يندفع باتجاه معارضة القرار الذي أصبح أمرًا واقعًا، واكتفى بأن عبّر لرئيس الوزراء عن رفضه الاستمرار في حمْل مسؤولية وزارة الخارجية، إلا أن الملك حسين طلب منه التريّث، حيث شارك في اجتماع الهيئة العامة للأمم المتحدة، في مقرّها الأوروبي، الذي عُقد للاستماع إلى خطاب ياسر عرفات. وفي هذا الاجتماع، أعلن عرفات موافقته على مطالب وزير الخارجية الأميركي، جورج شولتز: القبول بقرار مجلس الأمن 242، ونبذ الإرهاب، والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود.
بعد أقل من عام، عاد المصري للمشاركة بحكومة زيد بن شاكر، نائبًا لرئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، وهو يؤكّد أن اختياره لم يكن بسبب خبراته السابقة، وإنما لما يمثله 'سياسيًا واجتماعًيا'، الأمر الذي يحاول المصري أن يثبته في صفحات الكتاب كلها، باعتباره أصبح يمثّل مكونًا رئيسًا في بيئة النظام، نظرًا إلى أصوله الفلسطينية وتاريخ عائلته، وهي التي تجلت لاحقًا أيضًا في عهد الملك عبد الله الثاني، في اجتماع عُقد في دائرة المخابرات العامة، جرت فيه محاولة تشكيل حزب العهد، بزعامة عبد الهادي المجالي، وطاهر المصري، وقد اعتذر المصري عن المشاركة فيه.
أراد المصري الحصول على شرعيةٍ شعبية، من خلال مشاركته في الانتخابات النيابية التي رفع فيها شعار 'التغير، والديمقراطية، والشفافية'، معتبرًا أن الشعب كان يئن تحت وطأة سلطة تكميم الأفواه، والحجْر على حريته في التعبير، مستذكرًا الانقلاب على المفاهيم الوطنية والحريات السياسية، وما عانته عائلته وأهل مدينته نابلس، حيث كان لأحداث طفولته أثر في تكوينه الفكري والوطني. شارك في لجنة الميثاق الوطني التي اختير أحمد عبيدات رئيسًا لها، واختير المصري مقررًا لها، لكنه يسجّل أن هذا الميثاق المتقدم والديمقراطي 'قد وُضع على الرفّ'. كما يسجّل في صفحات أخرى المصير ذاته الذي تعرّضت له الأجندة الوطنية، ولجنة الحوار الوطني، ولجنة تعديل الدستور، في عهد الملك عبد الله الثاني، وهو ما يدفع إلى التفكير في المصير المتوقع لمقترحات لجنة تحديث المنظومة السياسية، والتي ترأسها رئيس الوزراء الأسبق، سمير الرفاعي، وقدّمت تقريرها إلى الملك عبد الله، الأسبوع الجاري، وتقرّر إحالته إلى الحكومة للسير بالإجراءات التي تقتضيها الحال، وهي وإن كانت ضرورية لكي تتخذ الصبغة القانونية، إلا أنها تعني أن مهماتها لم تتجاوز مهمات اللجان الاستشارية.
لم يلبث المصري أن عاد وزيرًا للخارجية بعد تعديل طرأ على حكومة مضر بدران، في أجواء حرب الخليج الأولى، وكان من مهماته إظهار رغبة الأردن في 'الابتعاد عن الموقف العراقي'، في الوقت الذي واجه صدّا مؤلمًا من زملائه وزراء الخارجية العرب، لكن الحدث الأبرز كان في لقائه الملك الحسن الثاني الذي طلب منه أن يبلغ 'ابن عمه الملك حسين' بضرورة تغيير موقفه من المؤتمر الدولي، حتى لا يتأثر الدور الأردني سلبا، وأن يؤيد مشروع الرئيس الأميركي، جورج بوش، وأن ينقل هذا الموقف إلى الرئيس الفرنسي، فرانسوا ميتران، الذي سيلتقيه الملك حسين، إذ إن 'قطار التسوية يجب أن يسير، وعليكم أن تصعدوا من هذه المحطة، وإلا فإن القطار سيفوتكم، وستبقون وحيدين تنتظرون على المحطة قطارًا لن يأتي'. ويُعلق المصري بأنه عندما أبلغ الرسالة للملك حسين لمعت عيناه بنظرةٍ لا تُنسى، تعبّر عن صحة تقدير الموقف الذي نصح به الحسن الثاني، 'فهذا اللقاء، واستجابة الملك حسين السريعة لها هي التي صنعت خريطة المنطقة، وغيّرت مسار الأحداث'، لكنه يستغرب غياب تلك الفكرة عن مراكز صنع القرار في الأردن، قبل أن ينبّههم إليها الحسن الثاني.
خلال عمله في حكومة بدران، اقترب أبو نشأت أكثر من الملك حسين، واطّلع على استراتيجية عمله، ليصبح 'جزءًا من المطبخ السياسي الضيق الذي يتعامل مع جوانب الحياة الحكومية الأردنية كافة'. وهو ما أدّى سريعًا إلى تكليفه بتشكيل الحكومة الأردنية الجديدة، والذي يذكر أنه كان متعمّدًا، لكونه 'أردنيًا من أصل فلسطيني'. ولعله يقصد أن الحاجة كانت قائمة إلى وجود وجه فلسطيني للتمهيد لدخول مؤتمر مدريد للسلام. ومن الطريف أن وزير البلاط، عدنان أبو عودة، كتب كتاب التكليف الملكي، وكتب الرد على كتاب التكليف الذي يُفترض أن يكتبه المصري الذي اعتبر أن قبوله بذلك كان من الأخطاء التي ارتكبها من دون أن يوضح بقيتها. وكان التعديل الوحيد الذي طلبه من أبو عودة إضافة جملة تتعلق بالتزام الحكومة بالميثاق الوطني. كما أنه لم يذيّل توقيعه، بحسب العُرف المتبع بالخادم المطيع، وإنما أصرّ أن يكون 'المخلص'.
عند تشكيل الحكومة، أعلن طاهر المصري أنها لن تكون حكومة مفاوضات، لكنها سرعان ما وجدت نفسها في خضم تحضير الوثائق وتهيئة الرأي العام تجاه مؤتمر مدريد الذي ضم وفدًا أردنيًا – فلسطينًا مشتركًا، ولعل هذا كان من أسباب اختياره، كما أوضحت السطور أعلاه، وهو ما يتجنّب المصري الخوض في تفاصيله، فيذكر من الحقيقة نصفها، أقلّ أو أكثر قليلًا. الأوضاع الداخلية أيضًا لم تمهل المصري كثيرًا، فقد قدّم النواب عريضة تسحب الثقة من حكومته، لعجزها 'عن مواجهة متطلّبات المرحلة الراهنة على الصعيدين الداخلي والخارجي'، وحرصًا منه على بقاء البرلمان، فقد تقدّم باستقالته التي طلب منه الملك تأجيلها إلى ما بعد انعقاد مؤتمر مدريد.
يذكر المصري أن الملك حسين أبلغ مساعد وزير الخارجية الأميركي، ريتشارد ميرفي، أنه، مقابل إعادة الضفة الغربية والقدس مستعدٌّ للتفاوض من دون منظمة التحرير، لكن رد ميرفي كان أن لا أحد يستطيع منح ذلك الضمان، وأن الملك حسين لم يكن ليوقّع اتفاق سلام لو لم يوقّع الفلسطينيون قبله في اتفاق أوسلو، لكن أبرز المشكلات التي نتجت بعد ذلك تعلقت بالتطبيع مع إسرائيل، 'وببروز تياراتٍ ودعواتٍ تدعو إلى حرمان الأردنيين من أصول فلسطينية من حقوقهم السياسية والمدنية'، الأمر الذي اضطرّ المصري إلى الرد عليهم والاشتباك معهم، وهو ما أدّى إلى توتر علاقته بالقصر وبعض الأجهزة، إلى أن حسم الملك حسين النقاش الدائر، وتمّت مصالحته بعد عناقٍ مع الملك، لكن هذه العلاقات كانت تتراوح بين مدّ وجزر، نتيجة اتفاق السلام والأوضاع الداخلية. وهو ما استمرّ في عهد الملك عبد الله الثاني الذي تتميّز المذكرات المتعلقة به بجرأة أكبر في نقد الأوضاع العامة، توحي بأن ثمّة ما يشبه القطيعة قد تمّت بعد تنحيته من رئاسة مجلس الأعيان عام 2013.
تجاهل المصري حكاياتٍ أخرى تكاد تكون معروفه، مثل تنصّله من اتفاقه مع أحمد عبيدات بتشكيل جبهة وطنية أردنية، بعد إعلانها بيوم، ومقالات كتبها، ولقاءاتٍ أجراها، ثم اضطر إلى تفسيرها ونقض ما جاء فيها، لكن يُسجَّل له أنه قد روى الحقيقة بيضاء، وإن اكتفى، في أحيان كثيرة، بمسّها، أو الإشارة إليها، وعدم الخوض في تفاصيلها، وقد يتعلق جزءٌ من ذلك بعدم معرفته بتلك التفاصيل، لكن الجزء الأهم كان اعتماده على أن 'اللبيب من الإشارة يفهمُ'.
عمان جو - رصد
قبل عشرين عامًا، نضجت لدى السياسي الأردني من أصول فلسطينية، والسفير والوزير والنائب ورئيس الوزراء، ورئيس مجلسَي النواب والأعيان، طاهر المصري، فكرة كتابة مذكّراته، وهي غير يومياته المكتوبة بخط يده، والتي لا يزال يحتفظ بها. دخلت هذه الفكرة حيّز التنفيذ منذ عام 2007، عندما بدأ تدوينها مع الصحافي وليد حسني زهرة، لينتهي منها بعد 14 عامًا.
ظل المصري، بعد أن غادر آخر مواقعه الرسمية رئيسًا لمجلس الأعيان، في أكتوبر/ تشرين الأول 2013، منشغلًا بالشأن الوطني العام، وهو ما قد يشكّل مبرّرًا مقبولًا، وإنْ غير كافٍ، لتفسير المدى الزمني الذي استغرقته عملية الكتابة، والتي بالضرورة تأثرت بالمستجدّات السياسية التي طرأت خلال هذه الفترة، وإعادة التفكير في تجربة صاحب المذكّرات وتقييمها. كذلك لم يوضح لنا المصري سبب تفضيله كتابة مذكّرات، وليس نشر يوميات حدّثنا عن وجودها، وأكد أنه يحتفظ بها، والتي تكمن أهميتها في أنها كتبت بالتزامن مع حدوث الوقائع، في حين أن المذكّرات تعيد قراءة التاريخ بأثر رجعي، وحكمة قد تكون متأخرة، إذ تتأثر روايتها بتبدّل رؤية كاتبها، وما آلت إليه الأحداث.
حملت مذكّرات طاهر المصري عنوان 'الحقيقة بيضاء' (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2021)، وجاءت في 830 صفحة، موزّعة على مجلدين، حمل غلاف الأول صورته في شبابه، في حين حمل غلاف الثاني صورته الحالية، وضمّهما صندوق كرتوني ضمن طبعة أنيقة، أما لغة الخطاب فجاءت سلسة ومباشرة وواضحة.
كان المألوف في الأردن أن ينشر قادة سياسيون، أغلبهم من صفوف المعارضة، مذكّراتهم. أما الرسميون فيلتزمون الصمت غالبًا، إلى أن تغيّر الحال في الأعوام الأربعة الماضية. وبنشر 'الحقيقة بيضاء'، ينضم المصري إلى سياسيين أردنيين سابقين نشروا يومياتهم أو مذكراتهم، فقد صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 'يوميات عدنان أبو عودة 1970-1988' عام 2018، ويوميات أكرم زعيتر 'سنوات الأزمة 1967-1970'، عام 2019. في حين نشر المركز في هذا العام (2021) أربعة كتب أخرى، حيث أكمل نشر يوميات أكرم زعيتر بين عامي 1949 و1965، في جزئين، بعنوان 'آمال الوحدة وآلام الانقسام'، ونشر يوميات عارف العارف 'في إمارة شرق الأردن 1926-1929'، و'المستدرك في يوميات عدنان أبو عودة: الأرض والزمن ومساعي السلام'. كما نشر ثلاثة رؤساء وزراء سابقين مذكراتهم، وهم: زيد بن شاكر الذي دونت مذكّراته أرملته نوزاد الساطي، وحملت عنوان 'الأمير زيد بن شاكر من السلاح إلى الانفتاح' (المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2019)، وفايز الطراونة وكتابه 'في خدمة العهدين'، (الآن ناشرون وموزعون، عمّان، 2019)، ومضر بدران وكتابه 'القرار'، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2020). وكان عبد السلام المجالي قد أصدر 'رحلة العمر .. من بيت الشعر إلى سدة الحكم' (دار المطبوعات والنشر، بيروت، 2003). وهناك مذكّرات الشريف فواز شرف 'صحب الناس قبلنا ذا الزمان: أوراق الشريف فواز، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2021).
وغني عن القول إن القيمة العلمية والتاريخية لما نُشر من مذكّرات ويوميات كانت متفاوتة، تبعًا لدقة كاتبها، وجرأته، ومدى رغبته في الإفصاح عمّا يعرفه وقدرته على ذلك، إلا أنها في المحصلة العامة قد كشفت الكثير مما كان يُعتبر أسرارًا، وتطرّقت إلى تفاصيل الحياة السياسية في الأردن، وكيفية إدارتها، وعلاقاته الخارجية، وتوازناته الداخلية، وأثارت جدلًا بين المهتمين بالشأن العام، الأمر الذي قد يشجع على نشر مذكرات ويوميات جديدة.
تمثّل مذكرات طاهر المصري امتدادًا لسيرة عائلته النابلسية، حيث عاش في طفولته أجواء زيارة الملك عبد الله الأول، ولاحقًا الملك حسين إلى منازل عائلته التي اشتغلت بالتجارة والسياسة في آن، فقد كان عمّه الحاج معزوز رئيسًا للبلدية، وعمّه حكمت رئيسًا لمجلس النواب، ومن أقطاب الحزب الوطني الاشتراكي الذي تزعّمه سليمان النابلسي، وما لبث أن وضع حكمت المصري تحت الإقامة الجبرية بعد حل المجلس عام 1957، في حين اعتُقل نشأت، والد طاهر، في العام نفسه، ثلاثة أشهر، بتهمة شتم الملك، وشملت الاعتقالات أيضًا عمّه نايف، وعددًا من رجالات المدينة. ويشبّه طاهر إقالة عمّه حكمت بإقالته هو من مجلس النواب لاحقًا، إذ قيل عن كليهما إنهما 'ملتزمان برأي مستقل وحرّ لا يناسب المرحلة'.
بعد عمل دام سبعة أعوام في البنك المركزي الأردني، انتُخب طاهر، عام 1973، نائبًا عن مقعد نابلس في مجلس النواب الأردني، بموجب تعديل دستوري سمح للمجلس ذاته أن ينتخب أعضاء المقاعد الشاغرة في الدوائر الانتخابية، نظرًا إلى ظروف الاحتلال الإسرائيلي. وهنا، بدأت حياته السياسية، بعد أن استشار عائلته فوافقت، بينما عارض ذلك عمّه حكمت الذي رأى أن أجواء الضفة الغربية لا تساعد في دخول البرلمان الأردني بسبب أحداث أيلول 1970، وعارضه طاهر الذي رأى أنها 'لم تكن حربًا أهلية بقدر ما هي أخطاء يجب تجاوزها، وعدم التوقف عندها'، وهو ما دفع أبناء عمومته إلى اتهامه بوطنيته.
مضى 24 يوما فقط على كونه نائبًا، ثم عُيّن وزيرًا في حكومة زيد الرفاعي، مبرّرًا هذا الاختيار بأنه كان حرصًا من الرفاعي على تشكيل حكومة لها وجه فلسطيني من خلال توزير عدد ممن لهم جذور عائلية ممتدّة في المجتمع الفلسطيني. عُيّن المصري وزيرًا لشؤون الأرض المحتلة التي تحوّلت من مكتب إلى وزارة مستقلة، وخلال عمله، بدأ ينقل إلى الملك حسين معاناة أهل الضفة الغربية من تصرّفات الحكومة، 'وقد بقيت هذه المعاناة متواصلة، وشبه دائمة، قبل قرار فك الارتباط بالضفة الغربية وبعده'. وخلال حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، أيّد المصري قرار الحكومة الأردنية الاكتفاء بإرسال قوة من الجيش الأردني إلى الجبهة السورية، وعدم فتح الجبهة الأردنية، وهو الموقف الذي أدّى إلى استقالة ثلاثة وزراء. ولاحقًا لم ينجح الأردن بتحقيق فك الارتباط على الجبهة الأردنية أُسوة بسورية ومصر، إذ لم تنظر سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى الضفة الغربية على أنها أرض محتلة، وإنما أراض متنازع عليها. ويذكُر المصري أن قرارات قمّة الرباط عام 1974 اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد جاء تتويجًا للجهد العربي الذي استمرّ منذ قمة الجزائر عام 1973، وأن مهندس هذه التحرّكات هو الملك الحسن الثاني 'المتهم أصلًا بأنه كان ينفذ مخطّط كيسنجر'، وزير الخارجية الأميركي في حينه، بمشاركة من الرئيس أنور السادات والملك فيصل، معتقدًا أن الدول العربية كانت 'تريد الانفكاك تدريجيًا من مسؤولياتها الفلسطينية'، عبر تسليم القضية إلى منظمة التحرير. وقد كان المصري عضوًا في الوفد الأردني المشارك في القمّة، لكنه لم يكن يعرف 'ملابسات أو تفاصيل أو خبايا هذه العلاقات'.
بعد القمّة العربية، أُخرج الوزراء المحسوبون على الضفة الغربية، وأُلغيت وزارة شؤون الأرض المحتلة، وتم تجميد مجلس النواب، وأُلّفت حكومة جديدة ضمت سبعة وزراء فقط من أصول فلسطينية، بدلًا من أن يتوزّع الوزراء فيها مناصفة بين الضفتين، كما جرى التقليد سابقًا. وبذلك خرج المصري من الوزارة، ليعمل في السلك الدبلوماسي سفيرًا في إسبانيا، ومن ثم في فرنسا ومنظمة يونسكو، ولندن. وبعد ثمانية أعوام أمضاها سفيرًا، أصبح وزيرًا للخارجية في حكومة أحمد عبيدات، عام 1983، موضحًا بجلاء أن 'تأثير وزير الخارجية وصلاحياته أقل مما يتخيله البعض، فمنذ ذلك الوقت وقبله وبعده، فإن الملك هو الذي يدير السياسة الخارجية'. ويعترف طاهر المصري بأنه لم يكن جزءًا فاعلًا في المطبخ السياسي الذي كان يدير شؤون البلد مع الملك حسين، والذي ضمّ عدنان أبو عودة، ومروان القاسم، وزيد بن شاكر، لكنه بدأ يشعر تدريجيًا أنه 'أصبح جزءًا من صناعة السياسة الخارجية الأردنية'، وبدأت علاقةٌ حقيقيةٌ تنمو بينه وبين الملك حسين.
يعتقد طاهر المصري أن أحمد عبيدات لم يؤدِ دورًا في أثناء الاتصالات حول الاتفاق الأردني – الفلسطيني، وترك الأمر لعدنان أبو عودة ومروان القاسم، وأن عبيدات كانت له تحفّظات على الاتفاق، ولم يكن يريد توسيع دائرة العلاقات بين المنظمة والأردن، ما أدّى، إلى جانب خلافات مع مسؤولين بارزين، مثل قائد الجيش زيد بن شاكر وعلي غندور، إلى إقالته لاحقًا. ولعل ذلك جزء من الحقيقة التي يرويها المصري، أما بقية القصة فتتعلق برغبة الملك في عودة العلاقات مع سورية، مسارا بديلا عن علاقته مع المنظمة التي عجزت عن تلبية الشروط الأميركية للانضمام إلى عملية السلام، ولذا تولّى زيد الرفاعي تأليف حكومة جديدة، حافظ فيها المصري على موقعه وزيرًا للخارجية. وهو يحدّثنا هنا عن رواياتٍ مألوفة، مثل رسالة الاعتذار التي وجهها الملك إلى الرئيس حافظ الأسد، معترفًا فيها 'بتورّط الأردن في أعمال عنف داخل سورية'، والتي يبدو أنها كانت شرطًا لعودة العلاقات الأردنية - السورية، ولاحقا أُعلن عن انهيار الاتفاق الأردني – الفلسطيني. ويذكُر المصري معارضته الخطوات الأردنية التي أعقبت ذلك، مثل إغلاق مكاتب المنظمة، وطرد خليل الوزير (أبو جهاد)، ومسرحية انشقاق عطا الله عطالله (أبو الزعيم) عن ياسر عرفات في عمّان.
يوازي المصري بين تحسّن علاقته مع قيادات منظمة التحرير وقربه من الملك حسين، لكنه يشير إلى انزعاج عرفات من شخصٍ مثله، 'يتمتع بمكانة سياسية جيدة في الأردن، وقريب من الملك، وله خلفيته العائلية في فلسطين، وما تتمتّع به من نفوذ في الضفة'، فقد كان عرفات يظن أن المصري، أو غيره، سيحلّ محله، إلى درجة أنه اعتبر انتخاب المصري رئيسًا لمجلس النواب عام 1993، بعد توقيع اتفاق أوسلو، 'خطوةً من الأردن لاستعادة النفوذ في الضفة الغربية'. وكانت هذه الشكوك والمخاوف متبادلة بين المنظمة والأردن، فبعد إلغاء الاتفاق الأردني – الفلسطيني، كان المصري رفقة الملك حسين في لندن، حين التقى الملك، في العام 1987، برئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه، شيمون بيريس، الذي صحبه يوسي بيلين، في حين كان زيد الرفاعي مع الملك في منزل اللورد ميتشكوم، ولم يحضر المصري اللقاء الذي نتج عنه اتفاق عُرف بـ 'ورقة بيريس- الحسين'. وبحسبها كان الجانبان ينويان إعادة الضفة الغربية إلى 'إدارة المملكة الأردنية الهاشمية بشكل جزئي أو كامل'، إذ كان من ضمن مخططات زيد الرفاعي قبول الأردن 'بمشروع حكم ذاتي واسع، كخطوة أولى لتحقيق الانسحاب الإسرائيلي'، وهي مشاريع تكرّرت منذ اتفاق كامب ديفيد إلى 'اتفاق بيريس – الحسين'، وصولًا إلى اتفاق أوسلو، مع اختلاف في الممثلين على المسرح ذاته.
يتألم المصري من قرار الأردن فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية، وعارضه 'لأسباب وطنية وقومية، ولأسباب شخصية، إذ لم يعلم به إلا عبر خطاب الملك في التلفزيون الأردني'. ويعتبر أن أحد الأسباب الرئيسة التي أدّت إليه 'خوف النظام الأردني من تداعيات الانتفاضة، كثورة شعبية يراها الشارع العربي لأول مرة'. لكنه لم يندفع باتجاه معارضة القرار الذي أصبح أمرًا واقعًا، واكتفى بأن عبّر لرئيس الوزراء عن رفضه الاستمرار في حمْل مسؤولية وزارة الخارجية، إلا أن الملك حسين طلب منه التريّث، حيث شارك في اجتماع الهيئة العامة للأمم المتحدة، في مقرّها الأوروبي، الذي عُقد للاستماع إلى خطاب ياسر عرفات. وفي هذا الاجتماع، أعلن عرفات موافقته على مطالب وزير الخارجية الأميركي، جورج شولتز: القبول بقرار مجلس الأمن 242، ونبذ الإرهاب، والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود.
بعد أقل من عام، عاد المصري للمشاركة بحكومة زيد بن شاكر، نائبًا لرئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، وهو يؤكّد أن اختياره لم يكن بسبب خبراته السابقة، وإنما لما يمثله 'سياسيًا واجتماعًيا'، الأمر الذي يحاول المصري أن يثبته في صفحات الكتاب كلها، باعتباره أصبح يمثّل مكونًا رئيسًا في بيئة النظام، نظرًا إلى أصوله الفلسطينية وتاريخ عائلته، وهي التي تجلت لاحقًا أيضًا في عهد الملك عبد الله الثاني، في اجتماع عُقد في دائرة المخابرات العامة، جرت فيه محاولة تشكيل حزب العهد، بزعامة عبد الهادي المجالي، وطاهر المصري، وقد اعتذر المصري عن المشاركة فيه.
أراد المصري الحصول على شرعيةٍ شعبية، من خلال مشاركته في الانتخابات النيابية التي رفع فيها شعار 'التغير، والديمقراطية، والشفافية'، معتبرًا أن الشعب كان يئن تحت وطأة سلطة تكميم الأفواه، والحجْر على حريته في التعبير، مستذكرًا الانقلاب على المفاهيم الوطنية والحريات السياسية، وما عانته عائلته وأهل مدينته نابلس، حيث كان لأحداث طفولته أثر في تكوينه الفكري والوطني. شارك في لجنة الميثاق الوطني التي اختير أحمد عبيدات رئيسًا لها، واختير المصري مقررًا لها، لكنه يسجّل أن هذا الميثاق المتقدم والديمقراطي 'قد وُضع على الرفّ'. كما يسجّل في صفحات أخرى المصير ذاته الذي تعرّضت له الأجندة الوطنية، ولجنة الحوار الوطني، ولجنة تعديل الدستور، في عهد الملك عبد الله الثاني، وهو ما يدفع إلى التفكير في المصير المتوقع لمقترحات لجنة تحديث المنظومة السياسية، والتي ترأسها رئيس الوزراء الأسبق، سمير الرفاعي، وقدّمت تقريرها إلى الملك عبد الله، الأسبوع الجاري، وتقرّر إحالته إلى الحكومة للسير بالإجراءات التي تقتضيها الحال، وهي وإن كانت ضرورية لكي تتخذ الصبغة القانونية، إلا أنها تعني أن مهماتها لم تتجاوز مهمات اللجان الاستشارية.
لم يلبث المصري أن عاد وزيرًا للخارجية بعد تعديل طرأ على حكومة مضر بدران، في أجواء حرب الخليج الأولى، وكان من مهماته إظهار رغبة الأردن في 'الابتعاد عن الموقف العراقي'، في الوقت الذي واجه صدّا مؤلمًا من زملائه وزراء الخارجية العرب، لكن الحدث الأبرز كان في لقائه الملك الحسن الثاني الذي طلب منه أن يبلغ 'ابن عمه الملك حسين' بضرورة تغيير موقفه من المؤتمر الدولي، حتى لا يتأثر الدور الأردني سلبا، وأن يؤيد مشروع الرئيس الأميركي، جورج بوش، وأن ينقل هذا الموقف إلى الرئيس الفرنسي، فرانسوا ميتران، الذي سيلتقيه الملك حسين، إذ إن 'قطار التسوية يجب أن يسير، وعليكم أن تصعدوا من هذه المحطة، وإلا فإن القطار سيفوتكم، وستبقون وحيدين تنتظرون على المحطة قطارًا لن يأتي'. ويُعلق المصري بأنه عندما أبلغ الرسالة للملك حسين لمعت عيناه بنظرةٍ لا تُنسى، تعبّر عن صحة تقدير الموقف الذي نصح به الحسن الثاني، 'فهذا اللقاء، واستجابة الملك حسين السريعة لها هي التي صنعت خريطة المنطقة، وغيّرت مسار الأحداث'، لكنه يستغرب غياب تلك الفكرة عن مراكز صنع القرار في الأردن، قبل أن ينبّههم إليها الحسن الثاني.
خلال عمله في حكومة بدران، اقترب أبو نشأت أكثر من الملك حسين، واطّلع على استراتيجية عمله، ليصبح 'جزءًا من المطبخ السياسي الضيق الذي يتعامل مع جوانب الحياة الحكومية الأردنية كافة'. وهو ما أدّى سريعًا إلى تكليفه بتشكيل الحكومة الأردنية الجديدة، والذي يذكر أنه كان متعمّدًا، لكونه 'أردنيًا من أصل فلسطيني'. ولعله يقصد أن الحاجة كانت قائمة إلى وجود وجه فلسطيني للتمهيد لدخول مؤتمر مدريد للسلام. ومن الطريف أن وزير البلاط، عدنان أبو عودة، كتب كتاب التكليف الملكي، وكتب الرد على كتاب التكليف الذي يُفترض أن يكتبه المصري الذي اعتبر أن قبوله بذلك كان من الأخطاء التي ارتكبها من دون أن يوضح بقيتها. وكان التعديل الوحيد الذي طلبه من أبو عودة إضافة جملة تتعلق بالتزام الحكومة بالميثاق الوطني. كما أنه لم يذيّل توقيعه، بحسب العُرف المتبع بالخادم المطيع، وإنما أصرّ أن يكون 'المخلص'.
عند تشكيل الحكومة، أعلن طاهر المصري أنها لن تكون حكومة مفاوضات، لكنها سرعان ما وجدت نفسها في خضم تحضير الوثائق وتهيئة الرأي العام تجاه مؤتمر مدريد الذي ضم وفدًا أردنيًا – فلسطينًا مشتركًا، ولعل هذا كان من أسباب اختياره، كما أوضحت السطور أعلاه، وهو ما يتجنّب المصري الخوض في تفاصيله، فيذكر من الحقيقة نصفها، أقلّ أو أكثر قليلًا. الأوضاع الداخلية أيضًا لم تمهل المصري كثيرًا، فقد قدّم النواب عريضة تسحب الثقة من حكومته، لعجزها 'عن مواجهة متطلّبات المرحلة الراهنة على الصعيدين الداخلي والخارجي'، وحرصًا منه على بقاء البرلمان، فقد تقدّم باستقالته التي طلب منه الملك تأجيلها إلى ما بعد انعقاد مؤتمر مدريد.
يذكر المصري أن الملك حسين أبلغ مساعد وزير الخارجية الأميركي، ريتشارد ميرفي، أنه، مقابل إعادة الضفة الغربية والقدس مستعدٌّ للتفاوض من دون منظمة التحرير، لكن رد ميرفي كان أن لا أحد يستطيع منح ذلك الضمان، وأن الملك حسين لم يكن ليوقّع اتفاق سلام لو لم يوقّع الفلسطينيون قبله في اتفاق أوسلو، لكن أبرز المشكلات التي نتجت بعد ذلك تعلقت بالتطبيع مع إسرائيل، 'وببروز تياراتٍ ودعواتٍ تدعو إلى حرمان الأردنيين من أصول فلسطينية من حقوقهم السياسية والمدنية'، الأمر الذي اضطرّ المصري إلى الرد عليهم والاشتباك معهم، وهو ما أدّى إلى توتر علاقته بالقصر وبعض الأجهزة، إلى أن حسم الملك حسين النقاش الدائر، وتمّت مصالحته بعد عناقٍ مع الملك، لكن هذه العلاقات كانت تتراوح بين مدّ وجزر، نتيجة اتفاق السلام والأوضاع الداخلية. وهو ما استمرّ في عهد الملك عبد الله الثاني الذي تتميّز المذكرات المتعلقة به بجرأة أكبر في نقد الأوضاع العامة، توحي بأن ثمّة ما يشبه القطيعة قد تمّت بعد تنحيته من رئاسة مجلس الأعيان عام 2013.
تجاهل المصري حكاياتٍ أخرى تكاد تكون معروفه، مثل تنصّله من اتفاقه مع أحمد عبيدات بتشكيل جبهة وطنية أردنية، بعد إعلانها بيوم، ومقالات كتبها، ولقاءاتٍ أجراها، ثم اضطر إلى تفسيرها ونقض ما جاء فيها، لكن يُسجَّل له أنه قد روى الحقيقة بيضاء، وإن اكتفى، في أحيان كثيرة، بمسّها، أو الإشارة إليها، وعدم الخوض في تفاصيلها، وقد يتعلق جزءٌ من ذلك بعدم معرفته بتلك التفاصيل، لكن الجزء الأهم كان اعتماده على أن 'اللبيب من الإشارة يفهمُ'.
عمان جو - رصد
قبل عشرين عامًا، نضجت لدى السياسي الأردني من أصول فلسطينية، والسفير والوزير والنائب ورئيس الوزراء، ورئيس مجلسَي النواب والأعيان، طاهر المصري، فكرة كتابة مذكّراته، وهي غير يومياته المكتوبة بخط يده، والتي لا يزال يحتفظ بها. دخلت هذه الفكرة حيّز التنفيذ منذ عام 2007، عندما بدأ تدوينها مع الصحافي وليد حسني زهرة، لينتهي منها بعد 14 عامًا.
ظل المصري، بعد أن غادر آخر مواقعه الرسمية رئيسًا لمجلس الأعيان، في أكتوبر/ تشرين الأول 2013، منشغلًا بالشأن الوطني العام، وهو ما قد يشكّل مبرّرًا مقبولًا، وإنْ غير كافٍ، لتفسير المدى الزمني الذي استغرقته عملية الكتابة، والتي بالضرورة تأثرت بالمستجدّات السياسية التي طرأت خلال هذه الفترة، وإعادة التفكير في تجربة صاحب المذكّرات وتقييمها. كذلك لم يوضح لنا المصري سبب تفضيله كتابة مذكّرات، وليس نشر يوميات حدّثنا عن وجودها، وأكد أنه يحتفظ بها، والتي تكمن أهميتها في أنها كتبت بالتزامن مع حدوث الوقائع، في حين أن المذكّرات تعيد قراءة التاريخ بأثر رجعي، وحكمة قد تكون متأخرة، إذ تتأثر روايتها بتبدّل رؤية كاتبها، وما آلت إليه الأحداث.
حملت مذكّرات طاهر المصري عنوان 'الحقيقة بيضاء' (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2021)، وجاءت في 830 صفحة، موزّعة على مجلدين، حمل غلاف الأول صورته في شبابه، في حين حمل غلاف الثاني صورته الحالية، وضمّهما صندوق كرتوني ضمن طبعة أنيقة، أما لغة الخطاب فجاءت سلسة ومباشرة وواضحة.
كان المألوف في الأردن أن ينشر قادة سياسيون، أغلبهم من صفوف المعارضة، مذكّراتهم. أما الرسميون فيلتزمون الصمت غالبًا، إلى أن تغيّر الحال في الأعوام الأربعة الماضية. وبنشر 'الحقيقة بيضاء'، ينضم المصري إلى سياسيين أردنيين سابقين نشروا يومياتهم أو مذكراتهم، فقد صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 'يوميات عدنان أبو عودة 1970-1988' عام 2018، ويوميات أكرم زعيتر 'سنوات الأزمة 1967-1970'، عام 2019. في حين نشر المركز في هذا العام (2021) أربعة كتب أخرى، حيث أكمل نشر يوميات أكرم زعيتر بين عامي 1949 و1965، في جزئين، بعنوان 'آمال الوحدة وآلام الانقسام'، ونشر يوميات عارف العارف 'في إمارة شرق الأردن 1926-1929'، و'المستدرك في يوميات عدنان أبو عودة: الأرض والزمن ومساعي السلام'. كما نشر ثلاثة رؤساء وزراء سابقين مذكراتهم، وهم: زيد بن شاكر الذي دونت مذكّراته أرملته نوزاد الساطي، وحملت عنوان 'الأمير زيد بن شاكر من السلاح إلى الانفتاح' (المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2019)، وفايز الطراونة وكتابه 'في خدمة العهدين'، (الآن ناشرون وموزعون، عمّان، 2019)، ومضر بدران وكتابه 'القرار'، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2020). وكان عبد السلام المجالي قد أصدر 'رحلة العمر .. من بيت الشعر إلى سدة الحكم' (دار المطبوعات والنشر، بيروت، 2003). وهناك مذكّرات الشريف فواز شرف 'صحب الناس قبلنا ذا الزمان: أوراق الشريف فواز، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2021).
وغني عن القول إن القيمة العلمية والتاريخية لما نُشر من مذكّرات ويوميات كانت متفاوتة، تبعًا لدقة كاتبها، وجرأته، ومدى رغبته في الإفصاح عمّا يعرفه وقدرته على ذلك، إلا أنها في المحصلة العامة قد كشفت الكثير مما كان يُعتبر أسرارًا، وتطرّقت إلى تفاصيل الحياة السياسية في الأردن، وكيفية إدارتها، وعلاقاته الخارجية، وتوازناته الداخلية، وأثارت جدلًا بين المهتمين بالشأن العام، الأمر الذي قد يشجع على نشر مذكرات ويوميات جديدة.
تمثّل مذكرات طاهر المصري امتدادًا لسيرة عائلته النابلسية، حيث عاش في طفولته أجواء زيارة الملك عبد الله الأول، ولاحقًا الملك حسين إلى منازل عائلته التي اشتغلت بالتجارة والسياسة في آن، فقد كان عمّه الحاج معزوز رئيسًا للبلدية، وعمّه حكمت رئيسًا لمجلس النواب، ومن أقطاب الحزب الوطني الاشتراكي الذي تزعّمه سليمان النابلسي، وما لبث أن وضع حكمت المصري تحت الإقامة الجبرية بعد حل المجلس عام 1957، في حين اعتُقل نشأت، والد طاهر، في العام نفسه، ثلاثة أشهر، بتهمة شتم الملك، وشملت الاعتقالات أيضًا عمّه نايف، وعددًا من رجالات المدينة. ويشبّه طاهر إقالة عمّه حكمت بإقالته هو من مجلس النواب لاحقًا، إذ قيل عن كليهما إنهما 'ملتزمان برأي مستقل وحرّ لا يناسب المرحلة'.
بعد عمل دام سبعة أعوام في البنك المركزي الأردني، انتُخب طاهر، عام 1973، نائبًا عن مقعد نابلس في مجلس النواب الأردني، بموجب تعديل دستوري سمح للمجلس ذاته أن ينتخب أعضاء المقاعد الشاغرة في الدوائر الانتخابية، نظرًا إلى ظروف الاحتلال الإسرائيلي. وهنا، بدأت حياته السياسية، بعد أن استشار عائلته فوافقت، بينما عارض ذلك عمّه حكمت الذي رأى أن أجواء الضفة الغربية لا تساعد في دخول البرلمان الأردني بسبب أحداث أيلول 1970، وعارضه طاهر الذي رأى أنها 'لم تكن حربًا أهلية بقدر ما هي أخطاء يجب تجاوزها، وعدم التوقف عندها'، وهو ما دفع أبناء عمومته إلى اتهامه بوطنيته.
مضى 24 يوما فقط على كونه نائبًا، ثم عُيّن وزيرًا في حكومة زيد الرفاعي، مبرّرًا هذا الاختيار بأنه كان حرصًا من الرفاعي على تشكيل حكومة لها وجه فلسطيني من خلال توزير عدد ممن لهم جذور عائلية ممتدّة في المجتمع الفلسطيني. عُيّن المصري وزيرًا لشؤون الأرض المحتلة التي تحوّلت من مكتب إلى وزارة مستقلة، وخلال عمله، بدأ ينقل إلى الملك حسين معاناة أهل الضفة الغربية من تصرّفات الحكومة، 'وقد بقيت هذه المعاناة متواصلة، وشبه دائمة، قبل قرار فك الارتباط بالضفة الغربية وبعده'. وخلال حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، أيّد المصري قرار الحكومة الأردنية الاكتفاء بإرسال قوة من الجيش الأردني إلى الجبهة السورية، وعدم فتح الجبهة الأردنية، وهو الموقف الذي أدّى إلى استقالة ثلاثة وزراء. ولاحقًا لم ينجح الأردن بتحقيق فك الارتباط على الجبهة الأردنية أُسوة بسورية ومصر، إذ لم تنظر سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى الضفة الغربية على أنها أرض محتلة، وإنما أراض متنازع عليها. ويذكُر المصري أن قرارات قمّة الرباط عام 1974 اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد جاء تتويجًا للجهد العربي الذي استمرّ منذ قمة الجزائر عام 1973، وأن مهندس هذه التحرّكات هو الملك الحسن الثاني 'المتهم أصلًا بأنه كان ينفذ مخطّط كيسنجر'، وزير الخارجية الأميركي في حينه، بمشاركة من الرئيس أنور السادات والملك فيصل، معتقدًا أن الدول العربية كانت 'تريد الانفكاك تدريجيًا من مسؤولياتها الفلسطينية'، عبر تسليم القضية إلى منظمة التحرير. وقد كان المصري عضوًا في الوفد الأردني المشارك في القمّة، لكنه لم يكن يعرف 'ملابسات أو تفاصيل أو خبايا هذه العلاقات'.
بعد القمّة العربية، أُخرج الوزراء المحسوبون على الضفة الغربية، وأُلغيت وزارة شؤون الأرض المحتلة، وتم تجميد مجلس النواب، وأُلّفت حكومة جديدة ضمت سبعة وزراء فقط من أصول فلسطينية، بدلًا من أن يتوزّع الوزراء فيها مناصفة بين الضفتين، كما جرى التقليد سابقًا. وبذلك خرج المصري من الوزارة، ليعمل في السلك الدبلوماسي سفيرًا في إسبانيا، ومن ثم في فرنسا ومنظمة يونسكو، ولندن. وبعد ثمانية أعوام أمضاها سفيرًا، أصبح وزيرًا للخارجية في حكومة أحمد عبيدات، عام 1983، موضحًا بجلاء أن 'تأثير وزير الخارجية وصلاحياته أقل مما يتخيله البعض، فمنذ ذلك الوقت وقبله وبعده، فإن الملك هو الذي يدير السياسة الخارجية'. ويعترف طاهر المصري بأنه لم يكن جزءًا فاعلًا في المطبخ السياسي الذي كان يدير شؤون البلد مع الملك حسين، والذي ضمّ عدنان أبو عودة، ومروان القاسم، وزيد بن شاكر، لكنه بدأ يشعر تدريجيًا أنه 'أصبح جزءًا من صناعة السياسة الخارجية الأردنية'، وبدأت علاقةٌ حقيقيةٌ تنمو بينه وبين الملك حسين.
يعتقد طاهر المصري أن أحمد عبيدات لم يؤدِ دورًا في أثناء الاتصالات حول الاتفاق الأردني – الفلسطيني، وترك الأمر لعدنان أبو عودة ومروان القاسم، وأن عبيدات كانت له تحفّظات على الاتفاق، ولم يكن يريد توسيع دائرة العلاقات بين المنظمة والأردن، ما أدّى، إلى جانب خلافات مع مسؤولين بارزين، مثل قائد الجيش زيد بن شاكر وعلي غندور، إلى إقالته لاحقًا. ولعل ذلك جزء من الحقيقة التي يرويها المصري، أما بقية القصة فتتعلق برغبة الملك في عودة العلاقات مع سورية، مسارا بديلا عن علاقته مع المنظمة التي عجزت عن تلبية الشروط الأميركية للانضمام إلى عملية السلام، ولذا تولّى زيد الرفاعي تأليف حكومة جديدة، حافظ فيها المصري على موقعه وزيرًا للخارجية. وهو يحدّثنا هنا عن رواياتٍ مألوفة، مثل رسالة الاعتذار التي وجهها الملك إلى الرئيس حافظ الأسد، معترفًا فيها 'بتورّط الأردن في أعمال عنف داخل سورية'، والتي يبدو أنها كانت شرطًا لعودة العلاقات الأردنية - السورية، ولاحقا أُعلن عن انهيار الاتفاق الأردني – الفلسطيني. ويذكُر المصري معارضته الخطوات الأردنية التي أعقبت ذلك، مثل إغلاق مكاتب المنظمة، وطرد خليل الوزير (أبو جهاد)، ومسرحية انشقاق عطا الله عطالله (أبو الزعيم) عن ياسر عرفات في عمّان.
يوازي المصري بين تحسّن علاقته مع قيادات منظمة التحرير وقربه من الملك حسين، لكنه يشير إلى انزعاج عرفات من شخصٍ مثله، 'يتمتع بمكانة سياسية جيدة في الأردن، وقريب من الملك، وله خلفيته العائلية في فلسطين، وما تتمتّع به من نفوذ في الضفة'، فقد كان عرفات يظن أن المصري، أو غيره، سيحلّ محله، إلى درجة أنه اعتبر انتخاب المصري رئيسًا لمجلس النواب عام 1993، بعد توقيع اتفاق أوسلو، 'خطوةً من الأردن لاستعادة النفوذ في الضفة الغربية'. وكانت هذه الشكوك والمخاوف متبادلة بين المنظمة والأردن، فبعد إلغاء الاتفاق الأردني – الفلسطيني، كان المصري رفقة الملك حسين في لندن، حين التقى الملك، في العام 1987، برئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه، شيمون بيريس، الذي صحبه يوسي بيلين، في حين كان زيد الرفاعي مع الملك في منزل اللورد ميتشكوم، ولم يحضر المصري اللقاء الذي نتج عنه اتفاق عُرف بـ 'ورقة بيريس- الحسين'. وبحسبها كان الجانبان ينويان إعادة الضفة الغربية إلى 'إدارة المملكة الأردنية الهاشمية بشكل جزئي أو كامل'، إذ كان من ضمن مخططات زيد الرفاعي قبول الأردن 'بمشروع حكم ذاتي واسع، كخطوة أولى لتحقيق الانسحاب الإسرائيلي'، وهي مشاريع تكرّرت منذ اتفاق كامب ديفيد إلى 'اتفاق بيريس – الحسين'، وصولًا إلى اتفاق أوسلو، مع اختلاف في الممثلين على المسرح ذاته.
يتألم المصري من قرار الأردن فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية، وعارضه 'لأسباب وطنية وقومية، ولأسباب شخصية، إذ لم يعلم به إلا عبر خطاب الملك في التلفزيون الأردني'. ويعتبر أن أحد الأسباب الرئيسة التي أدّت إليه 'خوف النظام الأردني من تداعيات الانتفاضة، كثورة شعبية يراها الشارع العربي لأول مرة'. لكنه لم يندفع باتجاه معارضة القرار الذي أصبح أمرًا واقعًا، واكتفى بأن عبّر لرئيس الوزراء عن رفضه الاستمرار في حمْل مسؤولية وزارة الخارجية، إلا أن الملك حسين طلب منه التريّث، حيث شارك في اجتماع الهيئة العامة للأمم المتحدة، في مقرّها الأوروبي، الذي عُقد للاستماع إلى خطاب ياسر عرفات. وفي هذا الاجتماع، أعلن عرفات موافقته على مطالب وزير الخارجية الأميركي، جورج شولتز: القبول بقرار مجلس الأمن 242، ونبذ الإرهاب، والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود.
بعد أقل من عام، عاد المصري للمشاركة بحكومة زيد بن شاكر، نائبًا لرئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، وهو يؤكّد أن اختياره لم يكن بسبب خبراته السابقة، وإنما لما يمثله 'سياسيًا واجتماعًيا'، الأمر الذي يحاول المصري أن يثبته في صفحات الكتاب كلها، باعتباره أصبح يمثّل مكونًا رئيسًا في بيئة النظام، نظرًا إلى أصوله الفلسطينية وتاريخ عائلته، وهي التي تجلت لاحقًا أيضًا في عهد الملك عبد الله الثاني، في اجتماع عُقد في دائرة المخابرات العامة، جرت فيه محاولة تشكيل حزب العهد، بزعامة عبد الهادي المجالي، وطاهر المصري، وقد اعتذر المصري عن المشاركة فيه.
أراد المصري الحصول على شرعيةٍ شعبية، من خلال مشاركته في الانتخابات النيابية التي رفع فيها شعار 'التغير، والديمقراطية، والشفافية'، معتبرًا أن الشعب كان يئن تحت وطأة سلطة تكميم الأفواه، والحجْر على حريته في التعبير، مستذكرًا الانقلاب على المفاهيم الوطنية والحريات السياسية، وما عانته عائلته وأهل مدينته نابلس، حيث كان لأحداث طفولته أثر في تكوينه الفكري والوطني. شارك في لجنة الميثاق الوطني التي اختير أحمد عبيدات رئيسًا لها، واختير المصري مقررًا لها، لكنه يسجّل أن هذا الميثاق المتقدم والديمقراطي 'قد وُضع على الرفّ'. كما يسجّل في صفحات أخرى المصير ذاته الذي تعرّضت له الأجندة الوطنية، ولجنة الحوار الوطني، ولجنة تعديل الدستور، في عهد الملك عبد الله الثاني، وهو ما يدفع إلى التفكير في المصير المتوقع لمقترحات لجنة تحديث المنظومة السياسية، والتي ترأسها رئيس الوزراء الأسبق، سمير الرفاعي، وقدّمت تقريرها إلى الملك عبد الله، الأسبوع الجاري، وتقرّر إحالته إلى الحكومة للسير بالإجراءات التي تقتضيها الحال، وهي وإن كانت ضرورية لكي تتخذ الصبغة القانونية، إلا أنها تعني أن مهماتها لم تتجاوز مهمات اللجان الاستشارية.
لم يلبث المصري أن عاد وزيرًا للخارجية بعد تعديل طرأ على حكومة مضر بدران، في أجواء حرب الخليج الأولى، وكان من مهماته إظهار رغبة الأردن في 'الابتعاد عن الموقف العراقي'، في الوقت الذي واجه صدّا مؤلمًا من زملائه وزراء الخارجية العرب، لكن الحدث الأبرز كان في لقائه الملك الحسن الثاني الذي طلب منه أن يبلغ 'ابن عمه الملك حسين' بضرورة تغيير موقفه من المؤتمر الدولي، حتى لا يتأثر الدور الأردني سلبا، وأن يؤيد مشروع الرئيس الأميركي، جورج بوش، وأن ينقل هذا الموقف إلى الرئيس الفرنسي، فرانسوا ميتران، الذي سيلتقيه الملك حسين، إذ إن 'قطار التسوية يجب أن يسير، وعليكم أن تصعدوا من هذه المحطة، وإلا فإن القطار سيفوتكم، وستبقون وحيدين تنتظرون على المحطة قطارًا لن يأتي'. ويُعلق المصري بأنه عندما أبلغ الرسالة للملك حسين لمعت عيناه بنظرةٍ لا تُنسى، تعبّر عن صحة تقدير الموقف الذي نصح به الحسن الثاني، 'فهذا اللقاء، واستجابة الملك حسين السريعة لها هي التي صنعت خريطة المنطقة، وغيّرت مسار الأحداث'، لكنه يستغرب غياب تلك الفكرة عن مراكز صنع القرار في الأردن، قبل أن ينبّههم إليها الحسن الثاني.
خلال عمله في حكومة بدران، اقترب أبو نشأت أكثر من الملك حسين، واطّلع على استراتيجية عمله، ليصبح 'جزءًا من المطبخ السياسي الضيق الذي يتعامل مع جوانب الحياة الحكومية الأردنية كافة'. وهو ما أدّى سريعًا إلى تكليفه بتشكيل الحكومة الأردنية الجديدة، والذي يذكر أنه كان متعمّدًا، لكونه 'أردنيًا من أصل فلسطيني'. ولعله يقصد أن الحاجة كانت قائمة إلى وجود وجه فلسطيني للتمهيد لدخول مؤتمر مدريد للسلام. ومن الطريف أن وزير البلاط، عدنان أبو عودة، كتب كتاب التكليف الملكي، وكتب الرد على كتاب التكليف الذي يُفترض أن يكتبه المصري الذي اعتبر أن قبوله بذلك كان من الأخطاء التي ارتكبها من دون أن يوضح بقيتها. وكان التعديل الوحيد الذي طلبه من أبو عودة إضافة جملة تتعلق بالتزام الحكومة بالميثاق الوطني. كما أنه لم يذيّل توقيعه، بحسب العُرف المتبع بالخادم المطيع، وإنما أصرّ أن يكون 'المخلص'.
عند تشكيل الحكومة، أعلن طاهر المصري أنها لن تكون حكومة مفاوضات، لكنها سرعان ما وجدت نفسها في خضم تحضير الوثائق وتهيئة الرأي العام تجاه مؤتمر مدريد الذي ضم وفدًا أردنيًا – فلسطينًا مشتركًا، ولعل هذا كان من أسباب اختياره، كما أوضحت السطور أعلاه، وهو ما يتجنّب المصري الخوض في تفاصيله، فيذكر من الحقيقة نصفها، أقلّ أو أكثر قليلًا. الأوضاع الداخلية أيضًا لم تمهل المصري كثيرًا، فقد قدّم النواب عريضة تسحب الثقة من حكومته، لعجزها 'عن مواجهة متطلّبات المرحلة الراهنة على الصعيدين الداخلي والخارجي'، وحرصًا منه على بقاء البرلمان، فقد تقدّم باستقالته التي طلب منه الملك تأجيلها إلى ما بعد انعقاد مؤتمر مدريد.
يذكر المصري أن الملك حسين أبلغ مساعد وزير الخارجية الأميركي، ريتشارد ميرفي، أنه، مقابل إعادة الضفة الغربية والقدس مستعدٌّ للتفاوض من دون منظمة التحرير، لكن رد ميرفي كان أن لا أحد يستطيع منح ذلك الضمان، وأن الملك حسين لم يكن ليوقّع اتفاق سلام لو لم يوقّع الفلسطينيون قبله في اتفاق أوسلو، لكن أبرز المشكلات التي نتجت بعد ذلك تعلقت بالتطبيع مع إسرائيل، 'وببروز تياراتٍ ودعواتٍ تدعو إلى حرمان الأردنيين من أصول فلسطينية من حقوقهم السياسية والمدنية'، الأمر الذي اضطرّ المصري إلى الرد عليهم والاشتباك معهم، وهو ما أدّى إلى توتر علاقته بالقصر وبعض الأجهزة، إلى أن حسم الملك حسين النقاش الدائر، وتمّت مصالحته بعد عناقٍ مع الملك، لكن هذه العلاقات كانت تتراوح بين مدّ وجزر، نتيجة اتفاق السلام والأوضاع الداخلية. وهو ما استمرّ في عهد الملك عبد الله الثاني الذي تتميّز المذكرات المتعلقة به بجرأة أكبر في نقد الأوضاع العامة، توحي بأن ثمّة ما يشبه القطيعة قد تمّت بعد تنحيته من رئاسة مجلس الأعيان عام 2013.
تجاهل المصري حكاياتٍ أخرى تكاد تكون معروفه، مثل تنصّله من اتفاقه مع أحمد عبيدات بتشكيل جبهة وطنية أردنية، بعد إعلانها بيوم، ومقالات كتبها، ولقاءاتٍ أجراها، ثم اضطر إلى تفسيرها ونقض ما جاء فيها، لكن يُسجَّل له أنه قد روى الحقيقة بيضاء، وإن اكتفى، في أحيان كثيرة، بمسّها، أو الإشارة إليها، وعدم الخوض في تفاصيلها، وقد يتعلق جزءٌ من ذلك بعدم معرفته بتلك التفاصيل، لكن الجزء الأهم كان اعتماده على أن 'اللبيب من الإشارة يفهمُ'.
التعليقات