عمان جو - رغم أن الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب لا يخفي اعتزامه تنبي نهج متشدد مع الصين، بدءاً من التلويح بفرض رسوم جمركية تصل إلى 60% على المنتجات الصينية، وحتى اختيار شخصيات مناوئة للصين في حكومته، يمكن أن تمثّل إدارة ترامب فرصة كبيرة أمام الصين لتعزيز نفوذها العالمي، والاقتراب من قيادة العالم.
فإستراتيجية “أمريكا أولاً” التي يتبنّاها ترامب في السياسة الخارجية يمكن أن تؤدي إلى انسحاب الولايات المتحدة كلياً أو جزئياً من العديد من المنظمات الدولية والمبادرات العالمية التي شكّلت أحجار زاوية في هيمنتها العالمية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
المنهج المنتظم للصين في تطوير التكنولوجيا الخضراء، بدءاً من إنتاج الطاقة، إلى السيارات الكهربائية، منحها السيطرة على سلاسل إمداد هذا القطاع في العالم
هذا الانسحاب سيخلق فراغاً لن تتردّد الصين في السعي لملئه. وستسعى بكين وراء الحصول على مساحة حركة أوسع لضمان دور قيادي في العالم وصياغة نظام دولي متعدد الأطراف يخدم مصالحها.
في تحليل نشره موقع المعهد الملكي للشؤون الدولية “تشاتام هاوس” البريطاني قال ويليام ماتيوس، الباحث الزميل البارز في برنامج آسيا والمحيط الهادئ في المعهد، إن رؤية الرئيس الصيني شي جين بينج هي ضرورة وجود نظام دولي وليس فوضى. لكن هذا النظام لا يلتزم بالمعايير وأنظمة التحالف القائمة على القيم العالمية لصالح شراكات غير ملزمة تقوم على المصالح المشتركة، وهو ما يعني، من الناحية العملية، حصول الصين على نفوذ كبير في العالم بفضل حجم اقتصادها الكبير، وريادتها التكنولوجية، وقوتها العسكرية المتنامية.
وتسعى الصين لتحقيق هذه الرؤية من خلال إعادة تشكيل الأمم المتحدة وإطلاق مبادراتها الدولية، وتحديد الشروط والأحكام المنظمة للتكنولوجيات الجديدة وسلاسل الإمداد.
وفي هذا السياق، أطلقت الصين، منذ 2021، ثلاث مبادرات عالمية مرتبطة بنفوذها في الأمم المتحدة، وهي مبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الأمن العالمي، ومبادرة الحضارة العالمية.
وتشير الصين إلى ميثاق الأمم المتحدة باعتباره “جوهر” النظام الدولي، في ورقتها الخاصة بمبادرة الأمن العالمي، وربطت مبادرة الحضارة العالمية بتشجيع الحوار بين الحضارات الذي تبنّته الجمعية العامة للأمم المتحدة ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، التي قرر الرئيس ترامب في ولايته الأولى انسحاب بلاده منها.
كما أصبحت الأمم المتحدة أداة أساسية تحاول من خلالها الصين بناء دورها كوسيط عالمي، بما في ذلك الترويج لخطة سلام في أوكرانيا، بالتعاون مع البرازيل.
ويرى ويليام ماتيوس، خبير العلاقات الخارجية الصينية، والمتخصص في دراسة الآثار الجيوسياسية للصين كقوة صاعدة، إن مبادرة التنمية العالمية تمثّل تطويراً لنهج التنمية الدولية الذي تتبنّاه الصين من خلال مبادرة الحزام والطريق، والذي أكد دور الصين كشريك تنموي أساسي بالنسبة للعديد من الدول في عالم الجنوب، مضيفاً أن المبادرتين الأخريين للأمن العالمي والحضارة العالمية تستحقان المتابعة.
وتمثّل مبادرة الأمن العالمي إطار عمل للتعاون الأمني الدولي في مواجهة التحالفات العسكرية الأمريكية. وفي حين مازالت الصين متأخرة للغاية عن الولايات المتحدة من حيث القوة العسكرية، فإن مبادرة الأمن العالمي مصممة لكي تناسب نقاط قوة الصين، مع التركيز على التعاون في مجالات تشمل الأمن الداخلي وأمن البيانات.
ومن شأن خفض الالتزامات الأمريكية أن يساعد بكين في استخدام مبادرة الأمن العالمي لنشر معايير الأمن الصينية مع حماية مصالحها الاقتصادية أيضاً.
وبالفعل أثبتت الصين أنها شريكٌ أمني جذاب بالنسبة لشركاء عسكريين للولايات المتحدة. فباكستان، المصنفة كحليف رئيسي من خارج الناتو للولايات المتحدة، تكثّف تعاونها الأمني مع الصين لحماية المواطنين الصينيين الذين يعملون في مشروعات مبادرة الحزام والطريق.
كما أن هناك تقارير عن اعتزام مصر، المصنفة أيضاً حليفاً رئيسياً من خارج الناتو للولايات المتحدة، الاستعانة بالمقاتلات الصينية طراز جيه 20، بدلاً من المقاتلات الأمريكية طراز إف.16
في الوقت نفسه تستهدف مبادرة الحضارة العالمية تقديم بديل لمنظومة قيم حقوق الإنسان المستندة إلى القيم الغربية. وتشجع المبادرة الصينية إقامة نظام يستند إلى تعدّد الحضارات، وأن لكل منها قيمها وأنظمتها السياسية الخاصة التي يجب احترام سيادتها وسلطتها.
لذلك فإن وجود إدارة أمريكية تميل إلى الانفصال عن قضايا العالم قد يسمح بسهولة لخطاب القيم “الحضارية” الذي تتبنّاه بكين بأن يصبح الإطار المفضّل للدبلوماسية الدولية، خاصة مع تزايد النفوذ الصيني في الأمم المتحدة.
ورغم أهمية هذه المبادرات، سيظل المصدر الأقوى للنفوذ الصيني هو التجارة والتكنولوجيا، خاصة في المجالات التي أصبح لها فيها دور رئيسي.
فالمنهج المنتظم للصين في تطوير التكنولوجيا الخضراء، بدءاً من إنتاج الطاقة، إلى السيارات الكهربائية، منحها السيطرة على سلاسل إمداد هذا القطاع في العالم.
ومع قدراتها التقنية المتقدمة، ومكانتها كشريك تنموي وتكنولوجي أساسي بالنسبة لعالم الجنوب، سوف تصبح باقي دول العالم معتمدة بصورة متزايدة على الصين في سلاسل إمداد التكنولوجيا الخضراء.
ونتيجة لانتشار التكنولوجيا الصينية في العالم، من المحتمل أن تصبح المعايير الصينية الحاكمة لاستخدام هذه التكنولوجيا هي المعايير السائدة.
في المقابل؛ فإن عدم رغبة إدارة ترامب في الانخراط في التعاون الدولي في مجال المناخ سيجعل الصين أكبر لاعب فيه، بما لديها من تكنولوجيات ومنتجات يحتاجها باقي العالم للتحول الأخضر.
حرص الصين على أن تصبح لاعباً رائداً في حوكمة الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم يمثّل تحدياً خطيراً للولايات المتحدة، التي ربما ترغب إدارتها الجديدة في الانكفاء على الداخل
ولا يجب التقليل من أهمية النفوذ الدولي الذي ستحققه الصين من خلال هذا الملف. فقد شهد منتدى التعاون الصيني الأفريقي الأخير مجموعة من التعهدات بزيادة التعاون في مجال التكنولوجيا الخضراء والطاقة المتجددة. كما شهد المنتدى تعهدات بتعميق التعاون في مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
وفي غياب الولايات المتحدة يمكن أن تحدّد الصين المعايير الدولية لاستخدام الذكاء الاصطناعي. لذلك فإن حرص الصين على أن تصبح لاعباً رائداً في حوكمة الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم يمثّل تحدياً خطيراً للولايات المتحدة، التي ربما ترغب إدارتها الجديدة في الانكفاء على الداخل تحت شعار “أمريكا أولاً”.
أخيراً، فإن توازن النفوذ الدولي للولايات المتحدة والصين لا يعتمد على العلاقات الثنائية بينهما، وإنما على علاقات كل منهما مع باقي دول العالم.
وتزايد نفوذ الصين داخل الأمم المتحدة مع مبادراتها الدولية وريادتها التكنولوجية، سيجعلها في موقف جيد للاستفادة من الغياب الأمريكي المحتمل عن المسرح العالمي تحت حكم ترامب، ويجعلها أكثر قدرة على صياغة القواعد العالمية الجديدة، من اللجوء لأي سبيل آخر.
في المقابل لن يكون أمام حلفاء الولايات المتحدة خيارات كثيرة لمواجهة النفوذ الصيني المتزايد، مادام البيت الأبيض لا يهتم كثيراً بالقضايا الدولية، ولا بقيادة أمريكا للنظام العالمي.
وإذا كانت أيّ حرب تجارية بين بكين وواشنطن يمكن أن تدمر أجندة ترامب الداخلية، فإن إستراتيجية “أمريكا أولاً” هي أفضل خدمة للصين، الساعية إلى إيجاد نظام عالمي متعدد الأقطاب، ولا يستند على القواعد التي أرستها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون بعد الحرب العالمية الثانية.
لذلك فإن أفضل إستراتيجية لحلفاء الولايات المتحدة هي التكيّف مع حقائق عالم يتزايد فيه النفوذ الصيني على المدى الطويل.
عمان جو - رغم أن الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب لا يخفي اعتزامه تنبي نهج متشدد مع الصين، بدءاً من التلويح بفرض رسوم جمركية تصل إلى 60% على المنتجات الصينية، وحتى اختيار شخصيات مناوئة للصين في حكومته، يمكن أن تمثّل إدارة ترامب فرصة كبيرة أمام الصين لتعزيز نفوذها العالمي، والاقتراب من قيادة العالم.
فإستراتيجية “أمريكا أولاً” التي يتبنّاها ترامب في السياسة الخارجية يمكن أن تؤدي إلى انسحاب الولايات المتحدة كلياً أو جزئياً من العديد من المنظمات الدولية والمبادرات العالمية التي شكّلت أحجار زاوية في هيمنتها العالمية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
المنهج المنتظم للصين في تطوير التكنولوجيا الخضراء، بدءاً من إنتاج الطاقة، إلى السيارات الكهربائية، منحها السيطرة على سلاسل إمداد هذا القطاع في العالم
هذا الانسحاب سيخلق فراغاً لن تتردّد الصين في السعي لملئه. وستسعى بكين وراء الحصول على مساحة حركة أوسع لضمان دور قيادي في العالم وصياغة نظام دولي متعدد الأطراف يخدم مصالحها.
في تحليل نشره موقع المعهد الملكي للشؤون الدولية “تشاتام هاوس” البريطاني قال ويليام ماتيوس، الباحث الزميل البارز في برنامج آسيا والمحيط الهادئ في المعهد، إن رؤية الرئيس الصيني شي جين بينج هي ضرورة وجود نظام دولي وليس فوضى. لكن هذا النظام لا يلتزم بالمعايير وأنظمة التحالف القائمة على القيم العالمية لصالح شراكات غير ملزمة تقوم على المصالح المشتركة، وهو ما يعني، من الناحية العملية، حصول الصين على نفوذ كبير في العالم بفضل حجم اقتصادها الكبير، وريادتها التكنولوجية، وقوتها العسكرية المتنامية.
وتسعى الصين لتحقيق هذه الرؤية من خلال إعادة تشكيل الأمم المتحدة وإطلاق مبادراتها الدولية، وتحديد الشروط والأحكام المنظمة للتكنولوجيات الجديدة وسلاسل الإمداد.
وفي هذا السياق، أطلقت الصين، منذ 2021، ثلاث مبادرات عالمية مرتبطة بنفوذها في الأمم المتحدة، وهي مبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الأمن العالمي، ومبادرة الحضارة العالمية.
وتشير الصين إلى ميثاق الأمم المتحدة باعتباره “جوهر” النظام الدولي، في ورقتها الخاصة بمبادرة الأمن العالمي، وربطت مبادرة الحضارة العالمية بتشجيع الحوار بين الحضارات الذي تبنّته الجمعية العامة للأمم المتحدة ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، التي قرر الرئيس ترامب في ولايته الأولى انسحاب بلاده منها.
كما أصبحت الأمم المتحدة أداة أساسية تحاول من خلالها الصين بناء دورها كوسيط عالمي، بما في ذلك الترويج لخطة سلام في أوكرانيا، بالتعاون مع البرازيل.
ويرى ويليام ماتيوس، خبير العلاقات الخارجية الصينية، والمتخصص في دراسة الآثار الجيوسياسية للصين كقوة صاعدة، إن مبادرة التنمية العالمية تمثّل تطويراً لنهج التنمية الدولية الذي تتبنّاه الصين من خلال مبادرة الحزام والطريق، والذي أكد دور الصين كشريك تنموي أساسي بالنسبة للعديد من الدول في عالم الجنوب، مضيفاً أن المبادرتين الأخريين للأمن العالمي والحضارة العالمية تستحقان المتابعة.
وتمثّل مبادرة الأمن العالمي إطار عمل للتعاون الأمني الدولي في مواجهة التحالفات العسكرية الأمريكية. وفي حين مازالت الصين متأخرة للغاية عن الولايات المتحدة من حيث القوة العسكرية، فإن مبادرة الأمن العالمي مصممة لكي تناسب نقاط قوة الصين، مع التركيز على التعاون في مجالات تشمل الأمن الداخلي وأمن البيانات.
ومن شأن خفض الالتزامات الأمريكية أن يساعد بكين في استخدام مبادرة الأمن العالمي لنشر معايير الأمن الصينية مع حماية مصالحها الاقتصادية أيضاً.
وبالفعل أثبتت الصين أنها شريكٌ أمني جذاب بالنسبة لشركاء عسكريين للولايات المتحدة. فباكستان، المصنفة كحليف رئيسي من خارج الناتو للولايات المتحدة، تكثّف تعاونها الأمني مع الصين لحماية المواطنين الصينيين الذين يعملون في مشروعات مبادرة الحزام والطريق.
كما أن هناك تقارير عن اعتزام مصر، المصنفة أيضاً حليفاً رئيسياً من خارج الناتو للولايات المتحدة، الاستعانة بالمقاتلات الصينية طراز جيه 20، بدلاً من المقاتلات الأمريكية طراز إف.16
في الوقت نفسه تستهدف مبادرة الحضارة العالمية تقديم بديل لمنظومة قيم حقوق الإنسان المستندة إلى القيم الغربية. وتشجع المبادرة الصينية إقامة نظام يستند إلى تعدّد الحضارات، وأن لكل منها قيمها وأنظمتها السياسية الخاصة التي يجب احترام سيادتها وسلطتها.
لذلك فإن وجود إدارة أمريكية تميل إلى الانفصال عن قضايا العالم قد يسمح بسهولة لخطاب القيم “الحضارية” الذي تتبنّاه بكين بأن يصبح الإطار المفضّل للدبلوماسية الدولية، خاصة مع تزايد النفوذ الصيني في الأمم المتحدة.
ورغم أهمية هذه المبادرات، سيظل المصدر الأقوى للنفوذ الصيني هو التجارة والتكنولوجيا، خاصة في المجالات التي أصبح لها فيها دور رئيسي.
فالمنهج المنتظم للصين في تطوير التكنولوجيا الخضراء، بدءاً من إنتاج الطاقة، إلى السيارات الكهربائية، منحها السيطرة على سلاسل إمداد هذا القطاع في العالم.
ومع قدراتها التقنية المتقدمة، ومكانتها كشريك تنموي وتكنولوجي أساسي بالنسبة لعالم الجنوب، سوف تصبح باقي دول العالم معتمدة بصورة متزايدة على الصين في سلاسل إمداد التكنولوجيا الخضراء.
ونتيجة لانتشار التكنولوجيا الصينية في العالم، من المحتمل أن تصبح المعايير الصينية الحاكمة لاستخدام هذه التكنولوجيا هي المعايير السائدة.
في المقابل؛ فإن عدم رغبة إدارة ترامب في الانخراط في التعاون الدولي في مجال المناخ سيجعل الصين أكبر لاعب فيه، بما لديها من تكنولوجيات ومنتجات يحتاجها باقي العالم للتحول الأخضر.
حرص الصين على أن تصبح لاعباً رائداً في حوكمة الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم يمثّل تحدياً خطيراً للولايات المتحدة، التي ربما ترغب إدارتها الجديدة في الانكفاء على الداخل
ولا يجب التقليل من أهمية النفوذ الدولي الذي ستحققه الصين من خلال هذا الملف. فقد شهد منتدى التعاون الصيني الأفريقي الأخير مجموعة من التعهدات بزيادة التعاون في مجال التكنولوجيا الخضراء والطاقة المتجددة. كما شهد المنتدى تعهدات بتعميق التعاون في مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
وفي غياب الولايات المتحدة يمكن أن تحدّد الصين المعايير الدولية لاستخدام الذكاء الاصطناعي. لذلك فإن حرص الصين على أن تصبح لاعباً رائداً في حوكمة الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم يمثّل تحدياً خطيراً للولايات المتحدة، التي ربما ترغب إدارتها الجديدة في الانكفاء على الداخل تحت شعار “أمريكا أولاً”.
أخيراً، فإن توازن النفوذ الدولي للولايات المتحدة والصين لا يعتمد على العلاقات الثنائية بينهما، وإنما على علاقات كل منهما مع باقي دول العالم.
وتزايد نفوذ الصين داخل الأمم المتحدة مع مبادراتها الدولية وريادتها التكنولوجية، سيجعلها في موقف جيد للاستفادة من الغياب الأمريكي المحتمل عن المسرح العالمي تحت حكم ترامب، ويجعلها أكثر قدرة على صياغة القواعد العالمية الجديدة، من اللجوء لأي سبيل آخر.
في المقابل لن يكون أمام حلفاء الولايات المتحدة خيارات كثيرة لمواجهة النفوذ الصيني المتزايد، مادام البيت الأبيض لا يهتم كثيراً بالقضايا الدولية، ولا بقيادة أمريكا للنظام العالمي.
وإذا كانت أيّ حرب تجارية بين بكين وواشنطن يمكن أن تدمر أجندة ترامب الداخلية، فإن إستراتيجية “أمريكا أولاً” هي أفضل خدمة للصين، الساعية إلى إيجاد نظام عالمي متعدد الأقطاب، ولا يستند على القواعد التي أرستها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون بعد الحرب العالمية الثانية.
لذلك فإن أفضل إستراتيجية لحلفاء الولايات المتحدة هي التكيّف مع حقائق عالم يتزايد فيه النفوذ الصيني على المدى الطويل.
عمان جو - رغم أن الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب لا يخفي اعتزامه تنبي نهج متشدد مع الصين، بدءاً من التلويح بفرض رسوم جمركية تصل إلى 60% على المنتجات الصينية، وحتى اختيار شخصيات مناوئة للصين في حكومته، يمكن أن تمثّل إدارة ترامب فرصة كبيرة أمام الصين لتعزيز نفوذها العالمي، والاقتراب من قيادة العالم.
فإستراتيجية “أمريكا أولاً” التي يتبنّاها ترامب في السياسة الخارجية يمكن أن تؤدي إلى انسحاب الولايات المتحدة كلياً أو جزئياً من العديد من المنظمات الدولية والمبادرات العالمية التي شكّلت أحجار زاوية في هيمنتها العالمية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
المنهج المنتظم للصين في تطوير التكنولوجيا الخضراء، بدءاً من إنتاج الطاقة، إلى السيارات الكهربائية، منحها السيطرة على سلاسل إمداد هذا القطاع في العالم
هذا الانسحاب سيخلق فراغاً لن تتردّد الصين في السعي لملئه. وستسعى بكين وراء الحصول على مساحة حركة أوسع لضمان دور قيادي في العالم وصياغة نظام دولي متعدد الأطراف يخدم مصالحها.
في تحليل نشره موقع المعهد الملكي للشؤون الدولية “تشاتام هاوس” البريطاني قال ويليام ماتيوس، الباحث الزميل البارز في برنامج آسيا والمحيط الهادئ في المعهد، إن رؤية الرئيس الصيني شي جين بينج هي ضرورة وجود نظام دولي وليس فوضى. لكن هذا النظام لا يلتزم بالمعايير وأنظمة التحالف القائمة على القيم العالمية لصالح شراكات غير ملزمة تقوم على المصالح المشتركة، وهو ما يعني، من الناحية العملية، حصول الصين على نفوذ كبير في العالم بفضل حجم اقتصادها الكبير، وريادتها التكنولوجية، وقوتها العسكرية المتنامية.
وتسعى الصين لتحقيق هذه الرؤية من خلال إعادة تشكيل الأمم المتحدة وإطلاق مبادراتها الدولية، وتحديد الشروط والأحكام المنظمة للتكنولوجيات الجديدة وسلاسل الإمداد.
وفي هذا السياق، أطلقت الصين، منذ 2021، ثلاث مبادرات عالمية مرتبطة بنفوذها في الأمم المتحدة، وهي مبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الأمن العالمي، ومبادرة الحضارة العالمية.
وتشير الصين إلى ميثاق الأمم المتحدة باعتباره “جوهر” النظام الدولي، في ورقتها الخاصة بمبادرة الأمن العالمي، وربطت مبادرة الحضارة العالمية بتشجيع الحوار بين الحضارات الذي تبنّته الجمعية العامة للأمم المتحدة ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، التي قرر الرئيس ترامب في ولايته الأولى انسحاب بلاده منها.
كما أصبحت الأمم المتحدة أداة أساسية تحاول من خلالها الصين بناء دورها كوسيط عالمي، بما في ذلك الترويج لخطة سلام في أوكرانيا، بالتعاون مع البرازيل.
ويرى ويليام ماتيوس، خبير العلاقات الخارجية الصينية، والمتخصص في دراسة الآثار الجيوسياسية للصين كقوة صاعدة، إن مبادرة التنمية العالمية تمثّل تطويراً لنهج التنمية الدولية الذي تتبنّاه الصين من خلال مبادرة الحزام والطريق، والذي أكد دور الصين كشريك تنموي أساسي بالنسبة للعديد من الدول في عالم الجنوب، مضيفاً أن المبادرتين الأخريين للأمن العالمي والحضارة العالمية تستحقان المتابعة.
وتمثّل مبادرة الأمن العالمي إطار عمل للتعاون الأمني الدولي في مواجهة التحالفات العسكرية الأمريكية. وفي حين مازالت الصين متأخرة للغاية عن الولايات المتحدة من حيث القوة العسكرية، فإن مبادرة الأمن العالمي مصممة لكي تناسب نقاط قوة الصين، مع التركيز على التعاون في مجالات تشمل الأمن الداخلي وأمن البيانات.
ومن شأن خفض الالتزامات الأمريكية أن يساعد بكين في استخدام مبادرة الأمن العالمي لنشر معايير الأمن الصينية مع حماية مصالحها الاقتصادية أيضاً.
وبالفعل أثبتت الصين أنها شريكٌ أمني جذاب بالنسبة لشركاء عسكريين للولايات المتحدة. فباكستان، المصنفة كحليف رئيسي من خارج الناتو للولايات المتحدة، تكثّف تعاونها الأمني مع الصين لحماية المواطنين الصينيين الذين يعملون في مشروعات مبادرة الحزام والطريق.
كما أن هناك تقارير عن اعتزام مصر، المصنفة أيضاً حليفاً رئيسياً من خارج الناتو للولايات المتحدة، الاستعانة بالمقاتلات الصينية طراز جيه 20، بدلاً من المقاتلات الأمريكية طراز إف.16
في الوقت نفسه تستهدف مبادرة الحضارة العالمية تقديم بديل لمنظومة قيم حقوق الإنسان المستندة إلى القيم الغربية. وتشجع المبادرة الصينية إقامة نظام يستند إلى تعدّد الحضارات، وأن لكل منها قيمها وأنظمتها السياسية الخاصة التي يجب احترام سيادتها وسلطتها.
لذلك فإن وجود إدارة أمريكية تميل إلى الانفصال عن قضايا العالم قد يسمح بسهولة لخطاب القيم “الحضارية” الذي تتبنّاه بكين بأن يصبح الإطار المفضّل للدبلوماسية الدولية، خاصة مع تزايد النفوذ الصيني في الأمم المتحدة.
ورغم أهمية هذه المبادرات، سيظل المصدر الأقوى للنفوذ الصيني هو التجارة والتكنولوجيا، خاصة في المجالات التي أصبح لها فيها دور رئيسي.
فالمنهج المنتظم للصين في تطوير التكنولوجيا الخضراء، بدءاً من إنتاج الطاقة، إلى السيارات الكهربائية، منحها السيطرة على سلاسل إمداد هذا القطاع في العالم.
ومع قدراتها التقنية المتقدمة، ومكانتها كشريك تنموي وتكنولوجي أساسي بالنسبة لعالم الجنوب، سوف تصبح باقي دول العالم معتمدة بصورة متزايدة على الصين في سلاسل إمداد التكنولوجيا الخضراء.
ونتيجة لانتشار التكنولوجيا الصينية في العالم، من المحتمل أن تصبح المعايير الصينية الحاكمة لاستخدام هذه التكنولوجيا هي المعايير السائدة.
في المقابل؛ فإن عدم رغبة إدارة ترامب في الانخراط في التعاون الدولي في مجال المناخ سيجعل الصين أكبر لاعب فيه، بما لديها من تكنولوجيات ومنتجات يحتاجها باقي العالم للتحول الأخضر.
حرص الصين على أن تصبح لاعباً رائداً في حوكمة الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم يمثّل تحدياً خطيراً للولايات المتحدة، التي ربما ترغب إدارتها الجديدة في الانكفاء على الداخل
ولا يجب التقليل من أهمية النفوذ الدولي الذي ستحققه الصين من خلال هذا الملف. فقد شهد منتدى التعاون الصيني الأفريقي الأخير مجموعة من التعهدات بزيادة التعاون في مجال التكنولوجيا الخضراء والطاقة المتجددة. كما شهد المنتدى تعهدات بتعميق التعاون في مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
وفي غياب الولايات المتحدة يمكن أن تحدّد الصين المعايير الدولية لاستخدام الذكاء الاصطناعي. لذلك فإن حرص الصين على أن تصبح لاعباً رائداً في حوكمة الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم يمثّل تحدياً خطيراً للولايات المتحدة، التي ربما ترغب إدارتها الجديدة في الانكفاء على الداخل تحت شعار “أمريكا أولاً”.
أخيراً، فإن توازن النفوذ الدولي للولايات المتحدة والصين لا يعتمد على العلاقات الثنائية بينهما، وإنما على علاقات كل منهما مع باقي دول العالم.
وتزايد نفوذ الصين داخل الأمم المتحدة مع مبادراتها الدولية وريادتها التكنولوجية، سيجعلها في موقف جيد للاستفادة من الغياب الأمريكي المحتمل عن المسرح العالمي تحت حكم ترامب، ويجعلها أكثر قدرة على صياغة القواعد العالمية الجديدة، من اللجوء لأي سبيل آخر.
في المقابل لن يكون أمام حلفاء الولايات المتحدة خيارات كثيرة لمواجهة النفوذ الصيني المتزايد، مادام البيت الأبيض لا يهتم كثيراً بالقضايا الدولية، ولا بقيادة أمريكا للنظام العالمي.
وإذا كانت أيّ حرب تجارية بين بكين وواشنطن يمكن أن تدمر أجندة ترامب الداخلية، فإن إستراتيجية “أمريكا أولاً” هي أفضل خدمة للصين، الساعية إلى إيجاد نظام عالمي متعدد الأقطاب، ولا يستند على القواعد التي أرستها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون بعد الحرب العالمية الثانية.
لذلك فإن أفضل إستراتيجية لحلفاء الولايات المتحدة هي التكيّف مع حقائق عالم يتزايد فيه النفوذ الصيني على المدى الطويل.
التعليقات
الصين تستعد لملء الفراغ الدولي .. “تشاتام هاوس”: سياسة ترامب “أمريكا أولاً” تمهد لبكين قيادة العالم
التعليقات