عمان جو-الدكتور نوفان العجارمة
اجريت انتخابات مجالس المحافظات موخرا تنفيذا لاحكام قانون اللامركزية رقم (49) لسنة 2015 وقام مجلس الوزراء بتعيين ما لا يزيد على (15%) من عدد أعضاء المجلس المنتخبين أعضاء في مجلس المحافظة (مع تخصيص ثلث هذه النسبة للنساء).
ونتيجة لذلك تم طرح سؤال حول مدى اتفاق هذا التعيين من الناحية القانونية مع مفهوم وجوهر اللامركزية بشكل خاص و الادارة المحلية بشكل عام ، وهل يتم اختيار اعضاء مجالس المحافظات بالانتخاب ام بالتعيين ؟ نظرا لان الدستور الاردني في المادة (121) نص على ان الشؤون البلدية والمجالس المحلية تديرها مجالس بلدية او محلية وفقاً لقوانين خاصة ولم يحدد طريقة معينة لاختيار اعضاء هذه المجالس تاركا هذا الامر الى السلطة التقديرية للمشرع ، والمشرع الاردني تارة اخذ بالانتخاب (في المجالس البلدية) وتارة زاوج ما بين الانتخاب والتعيين ( في قانون اللامركزية).
قبل الاجابة على هذا الامر لابد من تسليط الضوء على اهداف الادارة المحلية بشكل عام حيث تسعى الدول جاهدة لتطبيق اللامركزية الإدارية، لتحقيق جملة من الاهداف منها :
1. أهداف سياسية: وهي تمثل ركيزة أو دعامة أساسية لهذا النظام، فقد ارتبطت اللامركزية الإدارية من الناحية النظرية والتاريخية بفكرة الديمقراطية، وذلك لما تهدف إليه من إشراك المواطنين في إدارة الأمور المحلية الخاصة بهم، ولهذا كثيراً ما يقال أن اللامركزية الإدارية أو الإدارة المحلية هي المدرسة النموذجية للديمقراطية، أو أن ديمقراطية الإدارة المحلية تعتبر جزءاً لا يتجزأ، إن لم تكن أساساً وقاعدة لنظام الحكم الديمقراطي في الدولة.
2. أهداف إدارية واقتصادية: إن فلسفة الإدارة اللامركزية لا تدور جميعها حول الأهداف السياسية السابق الإشارة إليها، وإنما تتبلور أيضاً في كونها مسألة اختيار لأفضل الوسائل لتحقيق الأهداف الإدارية والاقتصادية، وهذه الأهداف تتمثل أساساً في: تحقيق فاعلية الوظيفة الإدارية، كونها تؤدي إلى تخفيف بعض مهام الوظيفة الإدارية عن عاتق السلطة المركزية وإسنادها إلى هيئات أخرى تزاولها تحت إشرافها ورقابتها، مما يتيح لهذه السلطة أن تتفرغ لأمهات المسائل وكلياتها تاركة التفاصيل والجزئيات لتلك الهيئات، الأمر الذي يؤدي في الواقع إلى تحقيق إجادة وإتقان لما يباشر من وظائف على مستوى المجتمع بأسره.
كما تتمثل الأهداف المذكورة أيضاً في الحد من البيروقراطية وذلك بتبسيط الإجراءات الإدارية وتجنبها للروتين والنمط الحكومي العقيم الذي يعتبر من سمات المركزية الإدارية، ومن الأهداف الإدارية والاقتصادية للامركزية الإدارية كذلك، سهولة القيام بالإصلاح الإداري والاقتصادي لتحقيق الكفاية الإدارية والمساهمة في عملية التنمية.
3. أهداف اجتماعية: وتتمثل في تذكية الشعور بالانتماء إلى مجتمع محلي متميز، وتسهيل تطبيق مبدأ المشاركة الشعبية في الشؤون المحلية، وكذلك تعميق الثقة بالإنسان وبالقيم الإنسانية مع تحقيق العدالة الاجتماعية.
هذا ولم تظهر اللامركزية الإدارية بالمفهوم السابق إلا تحت تأثير انتشار المبادئ والأفكار الديمقراطية ونتيجة للتقدم العلمي والصناعي وما ترتب على كل ذلك من متغيرات مهمة في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية بحيث أصبحت الدولة الحديثة مثقلة بالتزاماتها تجاه الأفراد.
كل هذه الظروف جعلت من العسير على السلطة المركزية أن تجمع بين يديها كل مقاليد الأمور، ومن هنا بدأ التفكير في نقل بعض الأنشطة والاختصاصات إلى هيئات إقليمية (أو مرفقية) تباشرها استقلالاً عن الدولة وعلى نحو يسمح بإشراك أفراد المجتمع المحلي في إدارة شؤونهم بأنفسهم.
وفي الحقيقة إن اشتراك المواطنين في إدارة شؤونهم بالتعاون مع الحكومة المركزية، فضلاً عن دلالته الديمقراطية، يعتبر من الشروط اللازمة لنجاح إدارة المرافق العامة في الدولة.
فمن المعروف أن كل إقليم من أقاليم الدولة له رغباته ومصالحه المتميزة، فاحتياجات إقليم صناعي تختلف عن احتياجات إقليم آخر زراعي أو تجاري او سياحي، ومن هنا كان من اللازم أن يستقل كل إقليم بإدارة مشروعاته ومرافقه المختلفة حسب حاجاته وإمكانياته وبواسطة أشخاص على دراية بهذه الحاجات والإمكانيات.
لذلك نعود للسؤال الذي طرح ابتداءً هل من الضروي ان يتولى ادارة هذه المجالس مجالس منتخبة ؟ ام يجوز ان يتم تعين هذه المجالس من الحكومة المركزية ؟؟
يترتب على منح الهيئات المحلية الشخصية المعنوية أو القانونية، أن تصبح مجرد وحدات اعتبارية مستقلة عن الأفراد المكونين لها، ومن ثم فإنه يلزم أن يكون لها ممثلون آدميون يعبرون عن إرادتها ويباشرون باسمها ونيابة عنها الاختصاصات الموكلة إليها، ومع ذلك يجب أن نشير إلى أنه إذا كان هؤلاء الممثلون مرتبطين وتابعين للسلطة المركزية فإن استقلال الهيئات المحلية يصبح مجرد حبر على ورق وضرباً من العبث.
ولهذا يمكن القول أن قيام نظام الإدارة المحلية يتوقف في الواقع على درجة ما يتمتع به أعضاء المجالس المحلية من استقلال عن السلطة المركزية بحيث أنه كلما قوي هذا الاستقلال كلما قوي النظام ذاته والعكس صحيح.
وإذا كان هذا القول يمثل اتجاه الفقه الإداري في مجموعه، إلا أن الخلاف بينه يتجسد في كيفية تحقق هذا الاستقلال، فقد ذهب جانب منه إلى القول بأن استقلال الهيئات المحلية لا يتم إلا باختيار أعضائها بطريق الانتخاب، بينما ذهب الجانب الآخر إلى القول بأن الانتخاب ليس شرطا ضروريا لتحقق استقلال الهيئات أو السلطات المحلية، إذ يكفي أن يتم اختيار أعضاء هذه الهيئات أو تلك السلطات بطريق التعيين مع منحهم الضمانات الكافية في إدارة شؤونهم.
وفيما يلي نعرض أولاً لكل من هذين الرأيين وما يستند إليه من حجج ثم نبين بعد ذلك رأينا في هذا الصدد.
الرأي الأول: الانتخاب ليس ركناً لازماً في الإدارة المحلية وليس شرطا لتحقيق اللامركزية الادارية: ذهب أنصار هذا الرأي إلى القول بأنه لا يجوز الربط بين نظام اللامركزية الإقليمية وضرورة اختيار أعضاء المجالس الممثلة لها بالانتخاب، ذلك أن الركن المعتبر في هذا النظام هو استقلال الهيئات المحلية وهذا الاستقلال لا يتحقق فقط بانتخاب أعضاء هذه الهيئات إذ قد يتحقق بوسائل أخرى عديدة منها: الصلاحية التي يستمدها أعضاء هذه المجالس من القانون في اتخاذ قرارات نهائية ذات صفة تنفيذية، تعيين هؤلاء الأعضاء مع منحهم ضمانة عدم القابلية للعزل: عدم الخضوع للسلطة التأديبية للحكومة المركزية... الخ.
وعلى ذلك إذا جاز القول «بأن أعضاء الهيئات اللامركزية الإقليمية يختارون عادة عن طريق الانتخاب فليس ثمة ما يحول دون تحقيق النظام اللامركزي عن طريق تعيين هؤلاء الأعضاء بواسطة السلطة التنفيذية من بين سكان الإقليم بشرط أن يكفل لهم استقلالهم في إدارة مصالح الإقليم الذاتية».
ويستند أنصار هذا الرأي إلى عدة حجج نذكر منها:
1. أن اللامركزية الإدارية قد تكون إقليمية وقد تكون مرفقية( المؤسسات العامة كالجامعات) وأن تشكيل الهيئات الممثلة لهذا النوع الأخير من اللامركزية يتم بالتعيين، ومن ثم ، فان القول بأن الانتخاب شرط ضروري لقيام اللامركزية يؤدي إلى استبعاد هذا النوع من اللامركزية وهو أمر لم يقل به أحد.
2. أن أعضاء السلطة القضائية يتم اختيارهم – عادة- بواسطة التعيين من قبل السلطة التنفيذية او يتم التنسيب بتعينهم من قبل السلطة التنفيذية ، ومع ذلك فإن هذا التعيين لا ينتقص من استقلال القضاء طالما أن القضاة غير قابلين للعزل.
3.. أنه لا محل لقياس الهيئات المحلية على المجالس النيابية والقول تبعاً لذلك بضرورة اختيار أعضائها بطريق الانتخاب، ذلك أن اختصاص كل منهما ذو طبيعة مغايرة للآخر، إذ بينما يكون اختصاص المجالس النيابية ذا طبيعة تشريعية أو سياسية فإن اختصاص الهيئات المحلية والذي يتمثل في ممارسة جزء من الوظيفة الإدارية يكون ذا طبيعة إدارية لا سياسية.
4.. إن الأخذ بأسلوب الانتخاب يقتضي أن يكون سكان الأقاليم قد بلغوا مستوى معيناً من التأهيل العلمي والثقافي يمكنهم من حسن اختيار ممثليهم في الوحدات المحلية، ومن ثم فإن إتباع هذا الأسلوب في الدول التي لازالت تفتقر إلى مثل هذا المستوى قد يؤدي إلى إساءة الاختيار فيضطلع بأعباء المرافق المحلية أعضاء غير أكفاء مع ما يترتب على ذلك من أضرار ليس فقط بمصالح الإقليم وإنما بمصالح الدولة ككل.
وعليه، فان الانتخاب ليس هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق استقلال الهيئات اللامركزية المحلية بل قد يتحقق هذا الاستقلال بإحدى وسائل ثلاث هي: الانتخاب أو التعيين من بين سكان الأقاليم بشرط توافر الضمانات التي تحفظ للأعضاء المعينين استقلالهم في مباشرتهم اختصاصاتهم، أو الجمع بين التعيين والانتخاب( وهذا ما اخذ به المشرع في قانون اللامركزية)، على أنه عند اختيار الوسيلة يجب أن ينظر إليها في ظل العصر والبيئة والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخاصة بكل دولة.
الرأي الثاني:الانتخاب ركن لازم للإدارة المحلية ويعتبر شرطا لازما لتحقيق اللامركزية الادارية: يرى أنصار هذا الاتجاه أن انتخاب أعضاء المجالس المحلية ليس فقط مجرد شرط يتحقق به استقلال هذه المجالس وإنما هو أيضاً ركن أساسي من أركان الإدارة المحلية أو اللامركزية الإقليمية، بمعنى أنها لا تقوم بدون تحققه أو كما يقول البعض أن الانتخاب هو الذي يفرق اللامركزية عن اللاوزارية الحكومية (عدم التركيز الإداري).
ويستند أنصار هذا الرأي إلى حجتين أساسيتين هما:
الحجة الأولى: الانتخاب ضمان استقلال الهيئات المحلية: يذهب هذا الرأي إلى القول بأنه لا قيام لنظام الإدارة المحلية إذا لم يتحقق لهيئاته الاستقلال الكافي في مواجهة السلطة المركزية، وأن هذا الاستقلال لا يتحقق في الواقع إلا إذا تم اختيار أعضاء هذه الهيئات بطريق الانتخاب، من هنا يجب الالتزام بهذه الوسيلة وإلا سقط عن النظام صفته اللامركزية المحلية، إذ لا يمكن اعتبار المجالس المحلية مستقلة إلا منذ اللحظة التي تشكل فيها بواسطة هيئة الناخبين في الوحدات المحلية، وان الأخذ بطريقة التعيين بالنسبة لكل أعضاء هذه المجالس أو لأغلبيتهم لابد وأن ينتهي عملاً إلى إهدار كل قيمة جدية لهذا الاستقلال، مما ينتهي بدوره إلى إهدار فكرة اللامركزية من أساسها، وذلك بحكم ما يربط هؤلاء الأعضاء المعينين من علاقات الخضوع والتبعية للسلطات المركزية التي عينتهم، وهو ما يحملهم في الأعم الأغلب على محاولة تسيير الشؤون المحلية بالشكل الذي يرضي اتجاهات هذه السلطات الرئاسية بأكثر مما يستجيب لحقيقة مقتضيات هذه الشؤون وما يتصل بها من مصالح.
أما فيما يتعلق بالقول بأن اللامركزية المصلحية أو المرفقية يتم اختيار أعضاء هيئاتها بطريق التعيين،وفي الوقت الذي لا ينكر فيه أحد ما تتمتع به من استقلال في مواجهة السلطة المركزية، فإن مثل هذا القول- كما يذكر أنصار هذا الاتجاه- مردود حيث لا يجوز قياس الإدارة المحلية أو اللامركزية الإقليمية على اللامركزية المصلحية ذلك أن هذه الأخيرة إنما تقوم على التخصص الفني، أما اللامركزية الإقليمية فتقوم على استقلال أبناء الوحدة الإقليمية بأمورهم ولن يتحقق ذلك إلا بأعمال مبادئ الانتخاب الحرة.
الحجة الثانية: الانتخاب يحقق ديمقراطية الإدارة المحلية: يرى أنصار هذا الاتجاه أن الإدارة المحلية تقوم في جوهرها على إسناد مباشرة الشؤون المحلية لأهل البيئة المحلية ذاتها وبالتالي تدريبهم على تحمل المسؤولية وتقدير حاجاتهم وتكوين رأي عام محلي، ولهذا تعد تطبيقاً للمبادئ الديمقراطية في مجال الإدارة أو بمعنى آخر هي الديمقراطية المطبقة على الإدارة..
وترتيباً على ذلك فإن الانتخاب يمثل عنصراً أساسياً في هذا الخصوص باعتباره أسلوباً ديمقراطياً في تكوين المجالس المحلية، ولا نعرف بلداً ديمقراطياً يشكل المجالس المحلية بغير طريق الانتخاب، ومعظم الدول تجري على أساس الانتخاب المباشر، بمعنى أن يتم اختيار أعضاء المجالس المحلية عن طريق الناخبين المحليين أنفسهم.
واضح إذن أن أنصار هذا الاتجاه إنما يربطون بين الإدارة المحلية والنظام الديمقراطي فهم يرون أن تلك الإدارة ما هي إلا امتداد طبيعي للديمقراطية السياسية على المستوى المحلي لذلك فقد شبه الفقيه الفرنسي (هوريو)- تنظيم الدستور للحكومة المركزية بطريقة ديمقراطية مع إهماله تنظيم الإدارة المحلية بنفس الأسلوب- بمن يصنع آلة مجردة من خزان الوقود، وإذا قيل لهم بأن المواطنين في الوحدات المحلية وبصفة خاصة في الدول النامية لم يصلوا بعد إلى المستوى الذي يؤهلهم لحسن اختيار ممثليهم مما يؤدي إلى الأضرار بالمرافق المحلية، فان أنصار هذا الاتجاه يردون على هذا القول بأنه يصدق أيضاً على كافة أنواع الانتخابات الأخرى التي تجري في الدولة كانتخابات رئاسة الدولة وأعضاء البرلمان كما يصدق أيضاً في حالة الاستفتاءات العامة بل أنه من أجل تلافي مثل هذا القصور فإنه يحسن أن ندرب المواطنين على مثل هذه الأمور، أي أنه يجب أن نتيح لهم فرصة مباشرة الانتخابات مرة تلو المرة حتى تصل قدراتهم إلى المستوى الذي يؤهلهم لاختيار الأفضل والأحسن، فالممارسة الديمقراطية ذاتها تعتبر وسيلة لاكتساب مثل هذه القدرات ، من هنا تعتبر الإدارة المحلية مناسبة طيبة في هذا الصدد، خاصة أن من بين أهدافها الأساسية تدريب المواطنين وتعويدهم على حسن اختيار ممثليهم فخير للأمة أن تتعلم عن طريق الخطأ من أن تبقى جاهلة خوفاً من الخطأ»!
وينتهي أنصار هذا الرأي إلى القول بأن «جوهر الإدارة المحلية أن يعهد إلى أبناء الوحدة الإدارية بأن يشبعوا حاجاتهم المحلية بأنفسهم، فلا يكفي أن يعترف المشرع بأن ثمة مصالح محلية متميزة، وإنما يجب أن يشرف على هذه المصالح المحلية من يهمهم الأمر ذاتهم، ولما كان من المستحيل على جميع أبناء الإقليم أو البلدة أن يقوموا بهذه المهمة بأنفسهم مباشرة، فإنه من المتعين أن يقوم بذلك من ينتخبونه نيابة عنهم، ومن ثم كان الانتخاب هو الأسلوب الأساسي الذي يتم عن طريقه تكوين المجالس المعبرة عن إرادة الشخص المعنوي الإقليمي.
يتضح لنا من العرض السابق أن الاتجاه الأول يركز أساساً على استقلال الهيئات المحلية بصرف النظر عن الوسيلة المؤدية إلى تحقيق هذا الغرض. فالاستقلال هو المعتبر- وليست الوسيلة–ركناً لازماً للإدارة المحلية، بينما يركز الاتجاه الثاني على الوسيلة ويربط بينها وبين قيام نظام الإدارة المحلية، بمعنى أن هذا الرأي يذهب إلى أن انتخاب أعضاء الهيئات المحلية- بوصفه وسيلة وحيدة لتحقيق استقلال هذه الهيئات- هو المعتبر ركناً لازماً لقيام الإدارة المحلية.
إن سبب هذا الخلاف يرجع في الواقع إلى اعتبار أو عدم اعتبار نظام الإدارة المحلية تطبيقاً عملياً للديمقراطية في مجال الإدارة، فمن يقول بذلك أي من يعتبر أن هذا النظام تطبيقاً للديمقراطية كان الانتخاب في نظره ركناً لازماً لقيامه، ومن يذهب إلى غير ذلك فإنه لا ينظر إلى الانتخاب إلا باعتباره وسيلة من بين وسائل عديدة يمكن إتباعها في اختيار أعضاء المجالس المحلية.
وتفريعاً على ذلك يمكن القول أن ما ذهب إليه كل من هذين الاتجاهين في هذا الخصوص يعتبر صحيحاً، على أساس أن من يرى في نظام الإدارة المحلية تطبيقاً عملياً للديمقراطية في مجال الإدارة، يتحتم عليه اعتبار الانتخاب الوسيلة الطبيعية لتحقيق هذا النظام، وأن من لا يرى في هذا النظام تطبيقاً عملياً للديمقراطية في مجال الإدارة فإنه من المنطقي إلا يعتبر الانتخاب أكثر من وسيلة قد تتبع وقد لا تتبع في اختيار أعضاء المجالس المحلية.
لذلك وللموازنة بين هذين الاتجاهين يتعين علينا أن نحدد ابتداء الهدف الأساسي من نظام الإدارة المحلية ومعرفة عما إذا كان يتمثل تطبيقا الديمقراطية في مجال الإدارة، أم أنه يتمثل في إدارة مرافق إدارية بصورة تتلاءم مع متطلبات البيئة المحلية التي تعمل بها.
في الواقع من الأمر، لا يمكن إنكار الدور الذي قد تلعبه الإدارة المحلية في المجال السياسي وبصفة خاصة دورها في إشراك المواطنين في إدارة أمورهم بأنفسهم وفي اعتمادهم على ذاتهم في مباشرة شؤون إقليمهم وهذه من سمات الديمقراطية، ولكن من ناحية أخرى يجب ألا يغيب عن البال أن نظام الإدارة المحلية ما هو إلا مسألة اختيار أفضل الوسائل لتحقيق الأهداف الإدارية، ومن ثم فهو أسلوب من أساليب التنظيم الإداري يهدف أساساً إلى أن يعهد إلى أبناء الوحدة المحلية بإدارة ما يهمهم من مرافق ذات طابع محلي دون تدخل من جانب السلطة المركزية إلا في حدود ما يقرره القانون في هذا الخصوص.
هذا هو الهدف الذي تسعى اللامركزية المحلية إلى تحقيقه وأما ما يتحدث عنه من أهداف تتعلق بتدعيم الديمقراطية وتدريب الناخبين على تولي شؤون الحكم وغيرها من الأهداف المماثلة، ومع تسليمنا الكامل بأهمية تحقيقها، إلا هناك وسائل أخرى مباشرة لتحقيق هذه الأهداف ، والأمر ليس وقفا على اللامركزية وحدها.
وترتيباً على ذلك يمكن القول أن الانتخاب وإن كان شرطاً مهماً في اختيار أعضاء الهيئات المحلية إلا أنه لا يعتبر مع ذلك ركناً في نظام الإدارة المحلية، يؤدي انعدامه إلى انعدام النظام برمته.
فقد يتم اختيار هؤلاء الأعضاء بطريق الانتخاب كما قد يتم اختيارهم بطريق التعيين أو بطريق الجمع بين التعيين والانتخاب(وهذه أفضل طريقة في نظرنا) ، فأيا كانت الطريقة فلا أثر لذلك على قيام نظام الإدارة المحلية في ذاته، ذلك أن المعتبر في هذا الخصوص أي ما يعد ركناً لازماً لقيام النظام هو استقلال هؤلاء الأعضاء في مواجهة السلطة المركزية، وهو ما قد يتحقق بوسائل عديدة كما ذكرنا منها: الانتخاب، وتقرير ضمانات كافية للأعضاء المعنيين كضمانه عدم القابلية للعزل أو عدم الخضوع للسلطة التأديبية من جانب الحكومة المركزية،ومنح هؤلاء الأعضاء سلطة البت واتخاذ القرارات النهائية فيما يباشرونه من أعمال، وقيام رابطة حقيقية بين هؤلاء الأعضاء وتمثيل المصالح المحلية سواء أكانت رابطة مهنية أو جغرافية أو مالية. الخ من الوسائل التي تتحدد بالنظر إلى الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية لكل دولة على حدة.
وخلاصة القول إذن أنه لا يجب الخلط بين استقلال الهيئات المحلية وهو ما يجب أن يتأكد في كافة أنظمة الإدارة المحلية وأياً كان المجتمع الذي تطبق فيه هذه الأنظمة، وبين وسيلة تحقق هذا الاستقلال وهي ما يمكن أن تختلف من نظام إلى آخر أو من دولة إلى أخرى أو حتى داخل الدولة الواحدة من وقت إلى آخر وذلك تبعاً للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة.
* رئيس ديوان التشريع والراي
عمان جو-الدكتور نوفان العجارمة
اجريت انتخابات مجالس المحافظات موخرا تنفيذا لاحكام قانون اللامركزية رقم (49) لسنة 2015 وقام مجلس الوزراء بتعيين ما لا يزيد على (15%) من عدد أعضاء المجلس المنتخبين أعضاء في مجلس المحافظة (مع تخصيص ثلث هذه النسبة للنساء).
ونتيجة لذلك تم طرح سؤال حول مدى اتفاق هذا التعيين من الناحية القانونية مع مفهوم وجوهر اللامركزية بشكل خاص و الادارة المحلية بشكل عام ، وهل يتم اختيار اعضاء مجالس المحافظات بالانتخاب ام بالتعيين ؟ نظرا لان الدستور الاردني في المادة (121) نص على ان الشؤون البلدية والمجالس المحلية تديرها مجالس بلدية او محلية وفقاً لقوانين خاصة ولم يحدد طريقة معينة لاختيار اعضاء هذه المجالس تاركا هذا الامر الى السلطة التقديرية للمشرع ، والمشرع الاردني تارة اخذ بالانتخاب (في المجالس البلدية) وتارة زاوج ما بين الانتخاب والتعيين ( في قانون اللامركزية).
قبل الاجابة على هذا الامر لابد من تسليط الضوء على اهداف الادارة المحلية بشكل عام حيث تسعى الدول جاهدة لتطبيق اللامركزية الإدارية، لتحقيق جملة من الاهداف منها :
1. أهداف سياسية: وهي تمثل ركيزة أو دعامة أساسية لهذا النظام، فقد ارتبطت اللامركزية الإدارية من الناحية النظرية والتاريخية بفكرة الديمقراطية، وذلك لما تهدف إليه من إشراك المواطنين في إدارة الأمور المحلية الخاصة بهم، ولهذا كثيراً ما يقال أن اللامركزية الإدارية أو الإدارة المحلية هي المدرسة النموذجية للديمقراطية، أو أن ديمقراطية الإدارة المحلية تعتبر جزءاً لا يتجزأ، إن لم تكن أساساً وقاعدة لنظام الحكم الديمقراطي في الدولة.
2. أهداف إدارية واقتصادية: إن فلسفة الإدارة اللامركزية لا تدور جميعها حول الأهداف السياسية السابق الإشارة إليها، وإنما تتبلور أيضاً في كونها مسألة اختيار لأفضل الوسائل لتحقيق الأهداف الإدارية والاقتصادية، وهذه الأهداف تتمثل أساساً في: تحقيق فاعلية الوظيفة الإدارية، كونها تؤدي إلى تخفيف بعض مهام الوظيفة الإدارية عن عاتق السلطة المركزية وإسنادها إلى هيئات أخرى تزاولها تحت إشرافها ورقابتها، مما يتيح لهذه السلطة أن تتفرغ لأمهات المسائل وكلياتها تاركة التفاصيل والجزئيات لتلك الهيئات، الأمر الذي يؤدي في الواقع إلى تحقيق إجادة وإتقان لما يباشر من وظائف على مستوى المجتمع بأسره.
كما تتمثل الأهداف المذكورة أيضاً في الحد من البيروقراطية وذلك بتبسيط الإجراءات الإدارية وتجنبها للروتين والنمط الحكومي العقيم الذي يعتبر من سمات المركزية الإدارية، ومن الأهداف الإدارية والاقتصادية للامركزية الإدارية كذلك، سهولة القيام بالإصلاح الإداري والاقتصادي لتحقيق الكفاية الإدارية والمساهمة في عملية التنمية.
3. أهداف اجتماعية: وتتمثل في تذكية الشعور بالانتماء إلى مجتمع محلي متميز، وتسهيل تطبيق مبدأ المشاركة الشعبية في الشؤون المحلية، وكذلك تعميق الثقة بالإنسان وبالقيم الإنسانية مع تحقيق العدالة الاجتماعية.
هذا ولم تظهر اللامركزية الإدارية بالمفهوم السابق إلا تحت تأثير انتشار المبادئ والأفكار الديمقراطية ونتيجة للتقدم العلمي والصناعي وما ترتب على كل ذلك من متغيرات مهمة في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية بحيث أصبحت الدولة الحديثة مثقلة بالتزاماتها تجاه الأفراد.
كل هذه الظروف جعلت من العسير على السلطة المركزية أن تجمع بين يديها كل مقاليد الأمور، ومن هنا بدأ التفكير في نقل بعض الأنشطة والاختصاصات إلى هيئات إقليمية (أو مرفقية) تباشرها استقلالاً عن الدولة وعلى نحو يسمح بإشراك أفراد المجتمع المحلي في إدارة شؤونهم بأنفسهم.
وفي الحقيقة إن اشتراك المواطنين في إدارة شؤونهم بالتعاون مع الحكومة المركزية، فضلاً عن دلالته الديمقراطية، يعتبر من الشروط اللازمة لنجاح إدارة المرافق العامة في الدولة.
فمن المعروف أن كل إقليم من أقاليم الدولة له رغباته ومصالحه المتميزة، فاحتياجات إقليم صناعي تختلف عن احتياجات إقليم آخر زراعي أو تجاري او سياحي، ومن هنا كان من اللازم أن يستقل كل إقليم بإدارة مشروعاته ومرافقه المختلفة حسب حاجاته وإمكانياته وبواسطة أشخاص على دراية بهذه الحاجات والإمكانيات.
لذلك نعود للسؤال الذي طرح ابتداءً هل من الضروي ان يتولى ادارة هذه المجالس مجالس منتخبة ؟ ام يجوز ان يتم تعين هذه المجالس من الحكومة المركزية ؟؟
يترتب على منح الهيئات المحلية الشخصية المعنوية أو القانونية، أن تصبح مجرد وحدات اعتبارية مستقلة عن الأفراد المكونين لها، ومن ثم فإنه يلزم أن يكون لها ممثلون آدميون يعبرون عن إرادتها ويباشرون باسمها ونيابة عنها الاختصاصات الموكلة إليها، ومع ذلك يجب أن نشير إلى أنه إذا كان هؤلاء الممثلون مرتبطين وتابعين للسلطة المركزية فإن استقلال الهيئات المحلية يصبح مجرد حبر على ورق وضرباً من العبث.
ولهذا يمكن القول أن قيام نظام الإدارة المحلية يتوقف في الواقع على درجة ما يتمتع به أعضاء المجالس المحلية من استقلال عن السلطة المركزية بحيث أنه كلما قوي هذا الاستقلال كلما قوي النظام ذاته والعكس صحيح.
وإذا كان هذا القول يمثل اتجاه الفقه الإداري في مجموعه، إلا أن الخلاف بينه يتجسد في كيفية تحقق هذا الاستقلال، فقد ذهب جانب منه إلى القول بأن استقلال الهيئات المحلية لا يتم إلا باختيار أعضائها بطريق الانتخاب، بينما ذهب الجانب الآخر إلى القول بأن الانتخاب ليس شرطا ضروريا لتحقق استقلال الهيئات أو السلطات المحلية، إذ يكفي أن يتم اختيار أعضاء هذه الهيئات أو تلك السلطات بطريق التعيين مع منحهم الضمانات الكافية في إدارة شؤونهم.
وفيما يلي نعرض أولاً لكل من هذين الرأيين وما يستند إليه من حجج ثم نبين بعد ذلك رأينا في هذا الصدد.
الرأي الأول: الانتخاب ليس ركناً لازماً في الإدارة المحلية وليس شرطا لتحقيق اللامركزية الادارية: ذهب أنصار هذا الرأي إلى القول بأنه لا يجوز الربط بين نظام اللامركزية الإقليمية وضرورة اختيار أعضاء المجالس الممثلة لها بالانتخاب، ذلك أن الركن المعتبر في هذا النظام هو استقلال الهيئات المحلية وهذا الاستقلال لا يتحقق فقط بانتخاب أعضاء هذه الهيئات إذ قد يتحقق بوسائل أخرى عديدة منها: الصلاحية التي يستمدها أعضاء هذه المجالس من القانون في اتخاذ قرارات نهائية ذات صفة تنفيذية، تعيين هؤلاء الأعضاء مع منحهم ضمانة عدم القابلية للعزل: عدم الخضوع للسلطة التأديبية للحكومة المركزية... الخ.
وعلى ذلك إذا جاز القول «بأن أعضاء الهيئات اللامركزية الإقليمية يختارون عادة عن طريق الانتخاب فليس ثمة ما يحول دون تحقيق النظام اللامركزي عن طريق تعيين هؤلاء الأعضاء بواسطة السلطة التنفيذية من بين سكان الإقليم بشرط أن يكفل لهم استقلالهم في إدارة مصالح الإقليم الذاتية».
ويستند أنصار هذا الرأي إلى عدة حجج نذكر منها:
1. أن اللامركزية الإدارية قد تكون إقليمية وقد تكون مرفقية( المؤسسات العامة كالجامعات) وأن تشكيل الهيئات الممثلة لهذا النوع الأخير من اللامركزية يتم بالتعيين، ومن ثم ، فان القول بأن الانتخاب شرط ضروري لقيام اللامركزية يؤدي إلى استبعاد هذا النوع من اللامركزية وهو أمر لم يقل به أحد.
2. أن أعضاء السلطة القضائية يتم اختيارهم – عادة- بواسطة التعيين من قبل السلطة التنفيذية او يتم التنسيب بتعينهم من قبل السلطة التنفيذية ، ومع ذلك فإن هذا التعيين لا ينتقص من استقلال القضاء طالما أن القضاة غير قابلين للعزل.
3.. أنه لا محل لقياس الهيئات المحلية على المجالس النيابية والقول تبعاً لذلك بضرورة اختيار أعضائها بطريق الانتخاب، ذلك أن اختصاص كل منهما ذو طبيعة مغايرة للآخر، إذ بينما يكون اختصاص المجالس النيابية ذا طبيعة تشريعية أو سياسية فإن اختصاص الهيئات المحلية والذي يتمثل في ممارسة جزء من الوظيفة الإدارية يكون ذا طبيعة إدارية لا سياسية.
4.. إن الأخذ بأسلوب الانتخاب يقتضي أن يكون سكان الأقاليم قد بلغوا مستوى معيناً من التأهيل العلمي والثقافي يمكنهم من حسن اختيار ممثليهم في الوحدات المحلية، ومن ثم فإن إتباع هذا الأسلوب في الدول التي لازالت تفتقر إلى مثل هذا المستوى قد يؤدي إلى إساءة الاختيار فيضطلع بأعباء المرافق المحلية أعضاء غير أكفاء مع ما يترتب على ذلك من أضرار ليس فقط بمصالح الإقليم وإنما بمصالح الدولة ككل.
وعليه، فان الانتخاب ليس هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق استقلال الهيئات اللامركزية المحلية بل قد يتحقق هذا الاستقلال بإحدى وسائل ثلاث هي: الانتخاب أو التعيين من بين سكان الأقاليم بشرط توافر الضمانات التي تحفظ للأعضاء المعينين استقلالهم في مباشرتهم اختصاصاتهم، أو الجمع بين التعيين والانتخاب( وهذا ما اخذ به المشرع في قانون اللامركزية)، على أنه عند اختيار الوسيلة يجب أن ينظر إليها في ظل العصر والبيئة والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخاصة بكل دولة.
الرأي الثاني:الانتخاب ركن لازم للإدارة المحلية ويعتبر شرطا لازما لتحقيق اللامركزية الادارية: يرى أنصار هذا الاتجاه أن انتخاب أعضاء المجالس المحلية ليس فقط مجرد شرط يتحقق به استقلال هذه المجالس وإنما هو أيضاً ركن أساسي من أركان الإدارة المحلية أو اللامركزية الإقليمية، بمعنى أنها لا تقوم بدون تحققه أو كما يقول البعض أن الانتخاب هو الذي يفرق اللامركزية عن اللاوزارية الحكومية (عدم التركيز الإداري).
ويستند أنصار هذا الرأي إلى حجتين أساسيتين هما:
الحجة الأولى: الانتخاب ضمان استقلال الهيئات المحلية: يذهب هذا الرأي إلى القول بأنه لا قيام لنظام الإدارة المحلية إذا لم يتحقق لهيئاته الاستقلال الكافي في مواجهة السلطة المركزية، وأن هذا الاستقلال لا يتحقق في الواقع إلا إذا تم اختيار أعضاء هذه الهيئات بطريق الانتخاب، من هنا يجب الالتزام بهذه الوسيلة وإلا سقط عن النظام صفته اللامركزية المحلية، إذ لا يمكن اعتبار المجالس المحلية مستقلة إلا منذ اللحظة التي تشكل فيها بواسطة هيئة الناخبين في الوحدات المحلية، وان الأخذ بطريقة التعيين بالنسبة لكل أعضاء هذه المجالس أو لأغلبيتهم لابد وأن ينتهي عملاً إلى إهدار كل قيمة جدية لهذا الاستقلال، مما ينتهي بدوره إلى إهدار فكرة اللامركزية من أساسها، وذلك بحكم ما يربط هؤلاء الأعضاء المعينين من علاقات الخضوع والتبعية للسلطات المركزية التي عينتهم، وهو ما يحملهم في الأعم الأغلب على محاولة تسيير الشؤون المحلية بالشكل الذي يرضي اتجاهات هذه السلطات الرئاسية بأكثر مما يستجيب لحقيقة مقتضيات هذه الشؤون وما يتصل بها من مصالح.
أما فيما يتعلق بالقول بأن اللامركزية المصلحية أو المرفقية يتم اختيار أعضاء هيئاتها بطريق التعيين،وفي الوقت الذي لا ينكر فيه أحد ما تتمتع به من استقلال في مواجهة السلطة المركزية، فإن مثل هذا القول- كما يذكر أنصار هذا الاتجاه- مردود حيث لا يجوز قياس الإدارة المحلية أو اللامركزية الإقليمية على اللامركزية المصلحية ذلك أن هذه الأخيرة إنما تقوم على التخصص الفني، أما اللامركزية الإقليمية فتقوم على استقلال أبناء الوحدة الإقليمية بأمورهم ولن يتحقق ذلك إلا بأعمال مبادئ الانتخاب الحرة.
الحجة الثانية: الانتخاب يحقق ديمقراطية الإدارة المحلية: يرى أنصار هذا الاتجاه أن الإدارة المحلية تقوم في جوهرها على إسناد مباشرة الشؤون المحلية لأهل البيئة المحلية ذاتها وبالتالي تدريبهم على تحمل المسؤولية وتقدير حاجاتهم وتكوين رأي عام محلي، ولهذا تعد تطبيقاً للمبادئ الديمقراطية في مجال الإدارة أو بمعنى آخر هي الديمقراطية المطبقة على الإدارة..
وترتيباً على ذلك فإن الانتخاب يمثل عنصراً أساسياً في هذا الخصوص باعتباره أسلوباً ديمقراطياً في تكوين المجالس المحلية، ولا نعرف بلداً ديمقراطياً يشكل المجالس المحلية بغير طريق الانتخاب، ومعظم الدول تجري على أساس الانتخاب المباشر، بمعنى أن يتم اختيار أعضاء المجالس المحلية عن طريق الناخبين المحليين أنفسهم.
واضح إذن أن أنصار هذا الاتجاه إنما يربطون بين الإدارة المحلية والنظام الديمقراطي فهم يرون أن تلك الإدارة ما هي إلا امتداد طبيعي للديمقراطية السياسية على المستوى المحلي لذلك فقد شبه الفقيه الفرنسي (هوريو)- تنظيم الدستور للحكومة المركزية بطريقة ديمقراطية مع إهماله تنظيم الإدارة المحلية بنفس الأسلوب- بمن يصنع آلة مجردة من خزان الوقود، وإذا قيل لهم بأن المواطنين في الوحدات المحلية وبصفة خاصة في الدول النامية لم يصلوا بعد إلى المستوى الذي يؤهلهم لحسن اختيار ممثليهم مما يؤدي إلى الأضرار بالمرافق المحلية، فان أنصار هذا الاتجاه يردون على هذا القول بأنه يصدق أيضاً على كافة أنواع الانتخابات الأخرى التي تجري في الدولة كانتخابات رئاسة الدولة وأعضاء البرلمان كما يصدق أيضاً في حالة الاستفتاءات العامة بل أنه من أجل تلافي مثل هذا القصور فإنه يحسن أن ندرب المواطنين على مثل هذه الأمور، أي أنه يجب أن نتيح لهم فرصة مباشرة الانتخابات مرة تلو المرة حتى تصل قدراتهم إلى المستوى الذي يؤهلهم لاختيار الأفضل والأحسن، فالممارسة الديمقراطية ذاتها تعتبر وسيلة لاكتساب مثل هذه القدرات ، من هنا تعتبر الإدارة المحلية مناسبة طيبة في هذا الصدد، خاصة أن من بين أهدافها الأساسية تدريب المواطنين وتعويدهم على حسن اختيار ممثليهم فخير للأمة أن تتعلم عن طريق الخطأ من أن تبقى جاهلة خوفاً من الخطأ»!
وينتهي أنصار هذا الرأي إلى القول بأن «جوهر الإدارة المحلية أن يعهد إلى أبناء الوحدة الإدارية بأن يشبعوا حاجاتهم المحلية بأنفسهم، فلا يكفي أن يعترف المشرع بأن ثمة مصالح محلية متميزة، وإنما يجب أن يشرف على هذه المصالح المحلية من يهمهم الأمر ذاتهم، ولما كان من المستحيل على جميع أبناء الإقليم أو البلدة أن يقوموا بهذه المهمة بأنفسهم مباشرة، فإنه من المتعين أن يقوم بذلك من ينتخبونه نيابة عنهم، ومن ثم كان الانتخاب هو الأسلوب الأساسي الذي يتم عن طريقه تكوين المجالس المعبرة عن إرادة الشخص المعنوي الإقليمي.
يتضح لنا من العرض السابق أن الاتجاه الأول يركز أساساً على استقلال الهيئات المحلية بصرف النظر عن الوسيلة المؤدية إلى تحقيق هذا الغرض. فالاستقلال هو المعتبر- وليست الوسيلة–ركناً لازماً للإدارة المحلية، بينما يركز الاتجاه الثاني على الوسيلة ويربط بينها وبين قيام نظام الإدارة المحلية، بمعنى أن هذا الرأي يذهب إلى أن انتخاب أعضاء الهيئات المحلية- بوصفه وسيلة وحيدة لتحقيق استقلال هذه الهيئات- هو المعتبر ركناً لازماً لقيام الإدارة المحلية.
إن سبب هذا الخلاف يرجع في الواقع إلى اعتبار أو عدم اعتبار نظام الإدارة المحلية تطبيقاً عملياً للديمقراطية في مجال الإدارة، فمن يقول بذلك أي من يعتبر أن هذا النظام تطبيقاً للديمقراطية كان الانتخاب في نظره ركناً لازماً لقيامه، ومن يذهب إلى غير ذلك فإنه لا ينظر إلى الانتخاب إلا باعتباره وسيلة من بين وسائل عديدة يمكن إتباعها في اختيار أعضاء المجالس المحلية.
وتفريعاً على ذلك يمكن القول أن ما ذهب إليه كل من هذين الاتجاهين في هذا الخصوص يعتبر صحيحاً، على أساس أن من يرى في نظام الإدارة المحلية تطبيقاً عملياً للديمقراطية في مجال الإدارة، يتحتم عليه اعتبار الانتخاب الوسيلة الطبيعية لتحقيق هذا النظام، وأن من لا يرى في هذا النظام تطبيقاً عملياً للديمقراطية في مجال الإدارة فإنه من المنطقي إلا يعتبر الانتخاب أكثر من وسيلة قد تتبع وقد لا تتبع في اختيار أعضاء المجالس المحلية.
لذلك وللموازنة بين هذين الاتجاهين يتعين علينا أن نحدد ابتداء الهدف الأساسي من نظام الإدارة المحلية ومعرفة عما إذا كان يتمثل تطبيقا الديمقراطية في مجال الإدارة، أم أنه يتمثل في إدارة مرافق إدارية بصورة تتلاءم مع متطلبات البيئة المحلية التي تعمل بها.
في الواقع من الأمر، لا يمكن إنكار الدور الذي قد تلعبه الإدارة المحلية في المجال السياسي وبصفة خاصة دورها في إشراك المواطنين في إدارة أمورهم بأنفسهم وفي اعتمادهم على ذاتهم في مباشرة شؤون إقليمهم وهذه من سمات الديمقراطية، ولكن من ناحية أخرى يجب ألا يغيب عن البال أن نظام الإدارة المحلية ما هو إلا مسألة اختيار أفضل الوسائل لتحقيق الأهداف الإدارية، ومن ثم فهو أسلوب من أساليب التنظيم الإداري يهدف أساساً إلى أن يعهد إلى أبناء الوحدة المحلية بإدارة ما يهمهم من مرافق ذات طابع محلي دون تدخل من جانب السلطة المركزية إلا في حدود ما يقرره القانون في هذا الخصوص.
هذا هو الهدف الذي تسعى اللامركزية المحلية إلى تحقيقه وأما ما يتحدث عنه من أهداف تتعلق بتدعيم الديمقراطية وتدريب الناخبين على تولي شؤون الحكم وغيرها من الأهداف المماثلة، ومع تسليمنا الكامل بأهمية تحقيقها، إلا هناك وسائل أخرى مباشرة لتحقيق هذه الأهداف ، والأمر ليس وقفا على اللامركزية وحدها.
وترتيباً على ذلك يمكن القول أن الانتخاب وإن كان شرطاً مهماً في اختيار أعضاء الهيئات المحلية إلا أنه لا يعتبر مع ذلك ركناً في نظام الإدارة المحلية، يؤدي انعدامه إلى انعدام النظام برمته.
فقد يتم اختيار هؤلاء الأعضاء بطريق الانتخاب كما قد يتم اختيارهم بطريق التعيين أو بطريق الجمع بين التعيين والانتخاب(وهذه أفضل طريقة في نظرنا) ، فأيا كانت الطريقة فلا أثر لذلك على قيام نظام الإدارة المحلية في ذاته، ذلك أن المعتبر في هذا الخصوص أي ما يعد ركناً لازماً لقيام النظام هو استقلال هؤلاء الأعضاء في مواجهة السلطة المركزية، وهو ما قد يتحقق بوسائل عديدة كما ذكرنا منها: الانتخاب، وتقرير ضمانات كافية للأعضاء المعنيين كضمانه عدم القابلية للعزل أو عدم الخضوع للسلطة التأديبية من جانب الحكومة المركزية،ومنح هؤلاء الأعضاء سلطة البت واتخاذ القرارات النهائية فيما يباشرونه من أعمال، وقيام رابطة حقيقية بين هؤلاء الأعضاء وتمثيل المصالح المحلية سواء أكانت رابطة مهنية أو جغرافية أو مالية. الخ من الوسائل التي تتحدد بالنظر إلى الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية لكل دولة على حدة.
وخلاصة القول إذن أنه لا يجب الخلط بين استقلال الهيئات المحلية وهو ما يجب أن يتأكد في كافة أنظمة الإدارة المحلية وأياً كان المجتمع الذي تطبق فيه هذه الأنظمة، وبين وسيلة تحقق هذا الاستقلال وهي ما يمكن أن تختلف من نظام إلى آخر أو من دولة إلى أخرى أو حتى داخل الدولة الواحدة من وقت إلى آخر وذلك تبعاً للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة.
* رئيس ديوان التشريع والراي
عمان جو-الدكتور نوفان العجارمة
اجريت انتخابات مجالس المحافظات موخرا تنفيذا لاحكام قانون اللامركزية رقم (49) لسنة 2015 وقام مجلس الوزراء بتعيين ما لا يزيد على (15%) من عدد أعضاء المجلس المنتخبين أعضاء في مجلس المحافظة (مع تخصيص ثلث هذه النسبة للنساء).
ونتيجة لذلك تم طرح سؤال حول مدى اتفاق هذا التعيين من الناحية القانونية مع مفهوم وجوهر اللامركزية بشكل خاص و الادارة المحلية بشكل عام ، وهل يتم اختيار اعضاء مجالس المحافظات بالانتخاب ام بالتعيين ؟ نظرا لان الدستور الاردني في المادة (121) نص على ان الشؤون البلدية والمجالس المحلية تديرها مجالس بلدية او محلية وفقاً لقوانين خاصة ولم يحدد طريقة معينة لاختيار اعضاء هذه المجالس تاركا هذا الامر الى السلطة التقديرية للمشرع ، والمشرع الاردني تارة اخذ بالانتخاب (في المجالس البلدية) وتارة زاوج ما بين الانتخاب والتعيين ( في قانون اللامركزية).
قبل الاجابة على هذا الامر لابد من تسليط الضوء على اهداف الادارة المحلية بشكل عام حيث تسعى الدول جاهدة لتطبيق اللامركزية الإدارية، لتحقيق جملة من الاهداف منها :
1. أهداف سياسية: وهي تمثل ركيزة أو دعامة أساسية لهذا النظام، فقد ارتبطت اللامركزية الإدارية من الناحية النظرية والتاريخية بفكرة الديمقراطية، وذلك لما تهدف إليه من إشراك المواطنين في إدارة الأمور المحلية الخاصة بهم، ولهذا كثيراً ما يقال أن اللامركزية الإدارية أو الإدارة المحلية هي المدرسة النموذجية للديمقراطية، أو أن ديمقراطية الإدارة المحلية تعتبر جزءاً لا يتجزأ، إن لم تكن أساساً وقاعدة لنظام الحكم الديمقراطي في الدولة.
2. أهداف إدارية واقتصادية: إن فلسفة الإدارة اللامركزية لا تدور جميعها حول الأهداف السياسية السابق الإشارة إليها، وإنما تتبلور أيضاً في كونها مسألة اختيار لأفضل الوسائل لتحقيق الأهداف الإدارية والاقتصادية، وهذه الأهداف تتمثل أساساً في: تحقيق فاعلية الوظيفة الإدارية، كونها تؤدي إلى تخفيف بعض مهام الوظيفة الإدارية عن عاتق السلطة المركزية وإسنادها إلى هيئات أخرى تزاولها تحت إشرافها ورقابتها، مما يتيح لهذه السلطة أن تتفرغ لأمهات المسائل وكلياتها تاركة التفاصيل والجزئيات لتلك الهيئات، الأمر الذي يؤدي في الواقع إلى تحقيق إجادة وإتقان لما يباشر من وظائف على مستوى المجتمع بأسره.
كما تتمثل الأهداف المذكورة أيضاً في الحد من البيروقراطية وذلك بتبسيط الإجراءات الإدارية وتجنبها للروتين والنمط الحكومي العقيم الذي يعتبر من سمات المركزية الإدارية، ومن الأهداف الإدارية والاقتصادية للامركزية الإدارية كذلك، سهولة القيام بالإصلاح الإداري والاقتصادي لتحقيق الكفاية الإدارية والمساهمة في عملية التنمية.
3. أهداف اجتماعية: وتتمثل في تذكية الشعور بالانتماء إلى مجتمع محلي متميز، وتسهيل تطبيق مبدأ المشاركة الشعبية في الشؤون المحلية، وكذلك تعميق الثقة بالإنسان وبالقيم الإنسانية مع تحقيق العدالة الاجتماعية.
هذا ولم تظهر اللامركزية الإدارية بالمفهوم السابق إلا تحت تأثير انتشار المبادئ والأفكار الديمقراطية ونتيجة للتقدم العلمي والصناعي وما ترتب على كل ذلك من متغيرات مهمة في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية بحيث أصبحت الدولة الحديثة مثقلة بالتزاماتها تجاه الأفراد.
كل هذه الظروف جعلت من العسير على السلطة المركزية أن تجمع بين يديها كل مقاليد الأمور، ومن هنا بدأ التفكير في نقل بعض الأنشطة والاختصاصات إلى هيئات إقليمية (أو مرفقية) تباشرها استقلالاً عن الدولة وعلى نحو يسمح بإشراك أفراد المجتمع المحلي في إدارة شؤونهم بأنفسهم.
وفي الحقيقة إن اشتراك المواطنين في إدارة شؤونهم بالتعاون مع الحكومة المركزية، فضلاً عن دلالته الديمقراطية، يعتبر من الشروط اللازمة لنجاح إدارة المرافق العامة في الدولة.
فمن المعروف أن كل إقليم من أقاليم الدولة له رغباته ومصالحه المتميزة، فاحتياجات إقليم صناعي تختلف عن احتياجات إقليم آخر زراعي أو تجاري او سياحي، ومن هنا كان من اللازم أن يستقل كل إقليم بإدارة مشروعاته ومرافقه المختلفة حسب حاجاته وإمكانياته وبواسطة أشخاص على دراية بهذه الحاجات والإمكانيات.
لذلك نعود للسؤال الذي طرح ابتداءً هل من الضروي ان يتولى ادارة هذه المجالس مجالس منتخبة ؟ ام يجوز ان يتم تعين هذه المجالس من الحكومة المركزية ؟؟
يترتب على منح الهيئات المحلية الشخصية المعنوية أو القانونية، أن تصبح مجرد وحدات اعتبارية مستقلة عن الأفراد المكونين لها، ومن ثم فإنه يلزم أن يكون لها ممثلون آدميون يعبرون عن إرادتها ويباشرون باسمها ونيابة عنها الاختصاصات الموكلة إليها، ومع ذلك يجب أن نشير إلى أنه إذا كان هؤلاء الممثلون مرتبطين وتابعين للسلطة المركزية فإن استقلال الهيئات المحلية يصبح مجرد حبر على ورق وضرباً من العبث.
ولهذا يمكن القول أن قيام نظام الإدارة المحلية يتوقف في الواقع على درجة ما يتمتع به أعضاء المجالس المحلية من استقلال عن السلطة المركزية بحيث أنه كلما قوي هذا الاستقلال كلما قوي النظام ذاته والعكس صحيح.
وإذا كان هذا القول يمثل اتجاه الفقه الإداري في مجموعه، إلا أن الخلاف بينه يتجسد في كيفية تحقق هذا الاستقلال، فقد ذهب جانب منه إلى القول بأن استقلال الهيئات المحلية لا يتم إلا باختيار أعضائها بطريق الانتخاب، بينما ذهب الجانب الآخر إلى القول بأن الانتخاب ليس شرطا ضروريا لتحقق استقلال الهيئات أو السلطات المحلية، إذ يكفي أن يتم اختيار أعضاء هذه الهيئات أو تلك السلطات بطريق التعيين مع منحهم الضمانات الكافية في إدارة شؤونهم.
وفيما يلي نعرض أولاً لكل من هذين الرأيين وما يستند إليه من حجج ثم نبين بعد ذلك رأينا في هذا الصدد.
الرأي الأول: الانتخاب ليس ركناً لازماً في الإدارة المحلية وليس شرطا لتحقيق اللامركزية الادارية: ذهب أنصار هذا الرأي إلى القول بأنه لا يجوز الربط بين نظام اللامركزية الإقليمية وضرورة اختيار أعضاء المجالس الممثلة لها بالانتخاب، ذلك أن الركن المعتبر في هذا النظام هو استقلال الهيئات المحلية وهذا الاستقلال لا يتحقق فقط بانتخاب أعضاء هذه الهيئات إذ قد يتحقق بوسائل أخرى عديدة منها: الصلاحية التي يستمدها أعضاء هذه المجالس من القانون في اتخاذ قرارات نهائية ذات صفة تنفيذية، تعيين هؤلاء الأعضاء مع منحهم ضمانة عدم القابلية للعزل: عدم الخضوع للسلطة التأديبية للحكومة المركزية... الخ.
وعلى ذلك إذا جاز القول «بأن أعضاء الهيئات اللامركزية الإقليمية يختارون عادة عن طريق الانتخاب فليس ثمة ما يحول دون تحقيق النظام اللامركزي عن طريق تعيين هؤلاء الأعضاء بواسطة السلطة التنفيذية من بين سكان الإقليم بشرط أن يكفل لهم استقلالهم في إدارة مصالح الإقليم الذاتية».
ويستند أنصار هذا الرأي إلى عدة حجج نذكر منها:
1. أن اللامركزية الإدارية قد تكون إقليمية وقد تكون مرفقية( المؤسسات العامة كالجامعات) وأن تشكيل الهيئات الممثلة لهذا النوع الأخير من اللامركزية يتم بالتعيين، ومن ثم ، فان القول بأن الانتخاب شرط ضروري لقيام اللامركزية يؤدي إلى استبعاد هذا النوع من اللامركزية وهو أمر لم يقل به أحد.
2. أن أعضاء السلطة القضائية يتم اختيارهم – عادة- بواسطة التعيين من قبل السلطة التنفيذية او يتم التنسيب بتعينهم من قبل السلطة التنفيذية ، ومع ذلك فإن هذا التعيين لا ينتقص من استقلال القضاء طالما أن القضاة غير قابلين للعزل.
3.. أنه لا محل لقياس الهيئات المحلية على المجالس النيابية والقول تبعاً لذلك بضرورة اختيار أعضائها بطريق الانتخاب، ذلك أن اختصاص كل منهما ذو طبيعة مغايرة للآخر، إذ بينما يكون اختصاص المجالس النيابية ذا طبيعة تشريعية أو سياسية فإن اختصاص الهيئات المحلية والذي يتمثل في ممارسة جزء من الوظيفة الإدارية يكون ذا طبيعة إدارية لا سياسية.
4.. إن الأخذ بأسلوب الانتخاب يقتضي أن يكون سكان الأقاليم قد بلغوا مستوى معيناً من التأهيل العلمي والثقافي يمكنهم من حسن اختيار ممثليهم في الوحدات المحلية، ومن ثم فإن إتباع هذا الأسلوب في الدول التي لازالت تفتقر إلى مثل هذا المستوى قد يؤدي إلى إساءة الاختيار فيضطلع بأعباء المرافق المحلية أعضاء غير أكفاء مع ما يترتب على ذلك من أضرار ليس فقط بمصالح الإقليم وإنما بمصالح الدولة ككل.
وعليه، فان الانتخاب ليس هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق استقلال الهيئات اللامركزية المحلية بل قد يتحقق هذا الاستقلال بإحدى وسائل ثلاث هي: الانتخاب أو التعيين من بين سكان الأقاليم بشرط توافر الضمانات التي تحفظ للأعضاء المعينين استقلالهم في مباشرتهم اختصاصاتهم، أو الجمع بين التعيين والانتخاب( وهذا ما اخذ به المشرع في قانون اللامركزية)، على أنه عند اختيار الوسيلة يجب أن ينظر إليها في ظل العصر والبيئة والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخاصة بكل دولة.
الرأي الثاني:الانتخاب ركن لازم للإدارة المحلية ويعتبر شرطا لازما لتحقيق اللامركزية الادارية: يرى أنصار هذا الاتجاه أن انتخاب أعضاء المجالس المحلية ليس فقط مجرد شرط يتحقق به استقلال هذه المجالس وإنما هو أيضاً ركن أساسي من أركان الإدارة المحلية أو اللامركزية الإقليمية، بمعنى أنها لا تقوم بدون تحققه أو كما يقول البعض أن الانتخاب هو الذي يفرق اللامركزية عن اللاوزارية الحكومية (عدم التركيز الإداري).
ويستند أنصار هذا الرأي إلى حجتين أساسيتين هما:
الحجة الأولى: الانتخاب ضمان استقلال الهيئات المحلية: يذهب هذا الرأي إلى القول بأنه لا قيام لنظام الإدارة المحلية إذا لم يتحقق لهيئاته الاستقلال الكافي في مواجهة السلطة المركزية، وأن هذا الاستقلال لا يتحقق في الواقع إلا إذا تم اختيار أعضاء هذه الهيئات بطريق الانتخاب، من هنا يجب الالتزام بهذه الوسيلة وإلا سقط عن النظام صفته اللامركزية المحلية، إذ لا يمكن اعتبار المجالس المحلية مستقلة إلا منذ اللحظة التي تشكل فيها بواسطة هيئة الناخبين في الوحدات المحلية، وان الأخذ بطريقة التعيين بالنسبة لكل أعضاء هذه المجالس أو لأغلبيتهم لابد وأن ينتهي عملاً إلى إهدار كل قيمة جدية لهذا الاستقلال، مما ينتهي بدوره إلى إهدار فكرة اللامركزية من أساسها، وذلك بحكم ما يربط هؤلاء الأعضاء المعينين من علاقات الخضوع والتبعية للسلطات المركزية التي عينتهم، وهو ما يحملهم في الأعم الأغلب على محاولة تسيير الشؤون المحلية بالشكل الذي يرضي اتجاهات هذه السلطات الرئاسية بأكثر مما يستجيب لحقيقة مقتضيات هذه الشؤون وما يتصل بها من مصالح.
أما فيما يتعلق بالقول بأن اللامركزية المصلحية أو المرفقية يتم اختيار أعضاء هيئاتها بطريق التعيين،وفي الوقت الذي لا ينكر فيه أحد ما تتمتع به من استقلال في مواجهة السلطة المركزية، فإن مثل هذا القول- كما يذكر أنصار هذا الاتجاه- مردود حيث لا يجوز قياس الإدارة المحلية أو اللامركزية الإقليمية على اللامركزية المصلحية ذلك أن هذه الأخيرة إنما تقوم على التخصص الفني، أما اللامركزية الإقليمية فتقوم على استقلال أبناء الوحدة الإقليمية بأمورهم ولن يتحقق ذلك إلا بأعمال مبادئ الانتخاب الحرة.
الحجة الثانية: الانتخاب يحقق ديمقراطية الإدارة المحلية: يرى أنصار هذا الاتجاه أن الإدارة المحلية تقوم في جوهرها على إسناد مباشرة الشؤون المحلية لأهل البيئة المحلية ذاتها وبالتالي تدريبهم على تحمل المسؤولية وتقدير حاجاتهم وتكوين رأي عام محلي، ولهذا تعد تطبيقاً للمبادئ الديمقراطية في مجال الإدارة أو بمعنى آخر هي الديمقراطية المطبقة على الإدارة..
وترتيباً على ذلك فإن الانتخاب يمثل عنصراً أساسياً في هذا الخصوص باعتباره أسلوباً ديمقراطياً في تكوين المجالس المحلية، ولا نعرف بلداً ديمقراطياً يشكل المجالس المحلية بغير طريق الانتخاب، ومعظم الدول تجري على أساس الانتخاب المباشر، بمعنى أن يتم اختيار أعضاء المجالس المحلية عن طريق الناخبين المحليين أنفسهم.
واضح إذن أن أنصار هذا الاتجاه إنما يربطون بين الإدارة المحلية والنظام الديمقراطي فهم يرون أن تلك الإدارة ما هي إلا امتداد طبيعي للديمقراطية السياسية على المستوى المحلي لذلك فقد شبه الفقيه الفرنسي (هوريو)- تنظيم الدستور للحكومة المركزية بطريقة ديمقراطية مع إهماله تنظيم الإدارة المحلية بنفس الأسلوب- بمن يصنع آلة مجردة من خزان الوقود، وإذا قيل لهم بأن المواطنين في الوحدات المحلية وبصفة خاصة في الدول النامية لم يصلوا بعد إلى المستوى الذي يؤهلهم لحسن اختيار ممثليهم مما يؤدي إلى الأضرار بالمرافق المحلية، فان أنصار هذا الاتجاه يردون على هذا القول بأنه يصدق أيضاً على كافة أنواع الانتخابات الأخرى التي تجري في الدولة كانتخابات رئاسة الدولة وأعضاء البرلمان كما يصدق أيضاً في حالة الاستفتاءات العامة بل أنه من أجل تلافي مثل هذا القصور فإنه يحسن أن ندرب المواطنين على مثل هذه الأمور، أي أنه يجب أن نتيح لهم فرصة مباشرة الانتخابات مرة تلو المرة حتى تصل قدراتهم إلى المستوى الذي يؤهلهم لاختيار الأفضل والأحسن، فالممارسة الديمقراطية ذاتها تعتبر وسيلة لاكتساب مثل هذه القدرات ، من هنا تعتبر الإدارة المحلية مناسبة طيبة في هذا الصدد، خاصة أن من بين أهدافها الأساسية تدريب المواطنين وتعويدهم على حسن اختيار ممثليهم فخير للأمة أن تتعلم عن طريق الخطأ من أن تبقى جاهلة خوفاً من الخطأ»!
وينتهي أنصار هذا الرأي إلى القول بأن «جوهر الإدارة المحلية أن يعهد إلى أبناء الوحدة الإدارية بأن يشبعوا حاجاتهم المحلية بأنفسهم، فلا يكفي أن يعترف المشرع بأن ثمة مصالح محلية متميزة، وإنما يجب أن يشرف على هذه المصالح المحلية من يهمهم الأمر ذاتهم، ولما كان من المستحيل على جميع أبناء الإقليم أو البلدة أن يقوموا بهذه المهمة بأنفسهم مباشرة، فإنه من المتعين أن يقوم بذلك من ينتخبونه نيابة عنهم، ومن ثم كان الانتخاب هو الأسلوب الأساسي الذي يتم عن طريقه تكوين المجالس المعبرة عن إرادة الشخص المعنوي الإقليمي.
يتضح لنا من العرض السابق أن الاتجاه الأول يركز أساساً على استقلال الهيئات المحلية بصرف النظر عن الوسيلة المؤدية إلى تحقيق هذا الغرض. فالاستقلال هو المعتبر- وليست الوسيلة–ركناً لازماً للإدارة المحلية، بينما يركز الاتجاه الثاني على الوسيلة ويربط بينها وبين قيام نظام الإدارة المحلية، بمعنى أن هذا الرأي يذهب إلى أن انتخاب أعضاء الهيئات المحلية- بوصفه وسيلة وحيدة لتحقيق استقلال هذه الهيئات- هو المعتبر ركناً لازماً لقيام الإدارة المحلية.
إن سبب هذا الخلاف يرجع في الواقع إلى اعتبار أو عدم اعتبار نظام الإدارة المحلية تطبيقاً عملياً للديمقراطية في مجال الإدارة، فمن يقول بذلك أي من يعتبر أن هذا النظام تطبيقاً للديمقراطية كان الانتخاب في نظره ركناً لازماً لقيامه، ومن يذهب إلى غير ذلك فإنه لا ينظر إلى الانتخاب إلا باعتباره وسيلة من بين وسائل عديدة يمكن إتباعها في اختيار أعضاء المجالس المحلية.
وتفريعاً على ذلك يمكن القول أن ما ذهب إليه كل من هذين الاتجاهين في هذا الخصوص يعتبر صحيحاً، على أساس أن من يرى في نظام الإدارة المحلية تطبيقاً عملياً للديمقراطية في مجال الإدارة، يتحتم عليه اعتبار الانتخاب الوسيلة الطبيعية لتحقيق هذا النظام، وأن من لا يرى في هذا النظام تطبيقاً عملياً للديمقراطية في مجال الإدارة فإنه من المنطقي إلا يعتبر الانتخاب أكثر من وسيلة قد تتبع وقد لا تتبع في اختيار أعضاء المجالس المحلية.
لذلك وللموازنة بين هذين الاتجاهين يتعين علينا أن نحدد ابتداء الهدف الأساسي من نظام الإدارة المحلية ومعرفة عما إذا كان يتمثل تطبيقا الديمقراطية في مجال الإدارة، أم أنه يتمثل في إدارة مرافق إدارية بصورة تتلاءم مع متطلبات البيئة المحلية التي تعمل بها.
في الواقع من الأمر، لا يمكن إنكار الدور الذي قد تلعبه الإدارة المحلية في المجال السياسي وبصفة خاصة دورها في إشراك المواطنين في إدارة أمورهم بأنفسهم وفي اعتمادهم على ذاتهم في مباشرة شؤون إقليمهم وهذه من سمات الديمقراطية، ولكن من ناحية أخرى يجب ألا يغيب عن البال أن نظام الإدارة المحلية ما هو إلا مسألة اختيار أفضل الوسائل لتحقيق الأهداف الإدارية، ومن ثم فهو أسلوب من أساليب التنظيم الإداري يهدف أساساً إلى أن يعهد إلى أبناء الوحدة المحلية بإدارة ما يهمهم من مرافق ذات طابع محلي دون تدخل من جانب السلطة المركزية إلا في حدود ما يقرره القانون في هذا الخصوص.
هذا هو الهدف الذي تسعى اللامركزية المحلية إلى تحقيقه وأما ما يتحدث عنه من أهداف تتعلق بتدعيم الديمقراطية وتدريب الناخبين على تولي شؤون الحكم وغيرها من الأهداف المماثلة، ومع تسليمنا الكامل بأهمية تحقيقها، إلا هناك وسائل أخرى مباشرة لتحقيق هذه الأهداف ، والأمر ليس وقفا على اللامركزية وحدها.
وترتيباً على ذلك يمكن القول أن الانتخاب وإن كان شرطاً مهماً في اختيار أعضاء الهيئات المحلية إلا أنه لا يعتبر مع ذلك ركناً في نظام الإدارة المحلية، يؤدي انعدامه إلى انعدام النظام برمته.
فقد يتم اختيار هؤلاء الأعضاء بطريق الانتخاب كما قد يتم اختيارهم بطريق التعيين أو بطريق الجمع بين التعيين والانتخاب(وهذه أفضل طريقة في نظرنا) ، فأيا كانت الطريقة فلا أثر لذلك على قيام نظام الإدارة المحلية في ذاته، ذلك أن المعتبر في هذا الخصوص أي ما يعد ركناً لازماً لقيام النظام هو استقلال هؤلاء الأعضاء في مواجهة السلطة المركزية، وهو ما قد يتحقق بوسائل عديدة كما ذكرنا منها: الانتخاب، وتقرير ضمانات كافية للأعضاء المعنيين كضمانه عدم القابلية للعزل أو عدم الخضوع للسلطة التأديبية من جانب الحكومة المركزية،ومنح هؤلاء الأعضاء سلطة البت واتخاذ القرارات النهائية فيما يباشرونه من أعمال، وقيام رابطة حقيقية بين هؤلاء الأعضاء وتمثيل المصالح المحلية سواء أكانت رابطة مهنية أو جغرافية أو مالية. الخ من الوسائل التي تتحدد بالنظر إلى الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية لكل دولة على حدة.
وخلاصة القول إذن أنه لا يجب الخلط بين استقلال الهيئات المحلية وهو ما يجب أن يتأكد في كافة أنظمة الإدارة المحلية وأياً كان المجتمع الذي تطبق فيه هذه الأنظمة، وبين وسيلة تحقق هذا الاستقلال وهي ما يمكن أن تختلف من نظام إلى آخر أو من دولة إلى أخرى أو حتى داخل الدولة الواحدة من وقت إلى آخر وذلك تبعاً للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة.
* رئيس ديوان التشريع والراي
التعليقات