عمان جو-برلمان
ما كنتُ أحسبُني قادراً على أنْ أقفَ في يومِ تأبينِكَ ، راثياً وشاهداً ، لكنَّها الحياةُ ، وإن كنتُ بلغتُ من العمر ِ عِتِياًّ ، فوداعُكَ مرٌّ ، إنه يُشعِرُني بأنَّ شيئاً بداخلي قد انكسر ، أتراهُ حسرةً على هذا الفيءِ الذي ظَلَلْتَنا به طَوالَ سِنِّي حَياتِكَ الوارفةِ وافتَقَدْناهُ ؟
كنّا نأتي إليكَ كلّما اكفَهرَّت سماؤنا، وكلَّما اشتدَّ قيظُ الهاجرةِ علينا ، أتراهُ حسرةً على تاريخِكِ المشبَّعِ بالإيمانِ بقضيةِ الأمةِ السوريةِ وبحزبِها رمزِ العطاءِ والصبرِ والتضحيةِ والفداء .
يا أمين سامي ،
من أينَ للموتِ أن يطويَ هذا التاريخ؟
فالسنديانةُ لا تنتهي بعدَ موتِها، غيابُها تذكيرٌ دائمٌ بِحضورِها ، فمنْ يملأُ فراغِك؟
وإنْ استطاعت قوةُ زمهريرِ الشتاءِ على اقتلاعِ شتلاتِ الوردِ والريحان ، فإنَّ بذورَها الممتدةُ عميقاً في الأرض ، لا تقوى عليها الرياحُ العاتية ، فتعودُ إلى الحياةِ من جديد ، وأنتَ بما زرعتَ من بذورٍ فينا ، نحنُ عائلتُكَ ، نحنُ رفقاؤُكَ ، بذورُ الإيمانِ والثباتِ والنضالِ تُبقيكَ حيّاً فينا وفي هذا الحزبِ العظيم .
أبي
ما الحياةُ، وما التاريخُ ، بلا رجالٍ يقهرونَ الموتَ بالحياةِ كما أنت ، بفيءِ عقولهِم المبدعةِ الخلاّقَةِ أمثالُكَ ، وعطاءِ سواعدِهِم الفتيَّةِ وبذلِ دمائِهم الزكيّةِ فداءَ الوطنِ والأمة ؟
أُؤكدُ لك أبي أيها الرفيقُ الودودْ
أن لا ، وألفُ لا ... لن يستويَ أبناءُ الحياةِ وأبناءُ الظلمةِ ، كما لن يستويَ الذين يَعلمونَ ويَعْملون والذين لا يَعلمون ، وإنْ عَلِموا فلا يَعملون .
سامي خوري أيها الرفاقُ والأصدقاءُ
سنديانةٌ ما شابَها يوماً يَباسٌ ، مروِيَّةٌ بالماءِ الذي جعلَ منه أللهُ كلَّ شيءٍ حي ، سنديانةٌ فَرَشَت ظِلَّها الوارفَ فوقَ رؤوسِنا ورؤوسِ أبناءِ شعبِنا وفي عزِّ الهاجرةِ ، تَعلَّمْتَ فَعَلِمْتَ وعَمِلتَ ، فاستوتْ منارةٌ لا يُطفِؤُها موتٌ ، ولا يقوى عليها زوالْ.
حاورناك كثيراً ، سمعناك كثيراً ، أتعبناكَ بأسئِلَتِنا ، عايشناكَ أباً حنوناً وجداًّ عطوفاً ، وعايشانكَ وعايشوك رفيقاً وأميناً وفدائياً قومياً، وكنتَ لنا ولهم القدوةَ في النضالِ والكفاحِ والتضحيةِ والفداءِ ، والقدوةَ في الإصغاءِ والاستماعِ والحوارِ الهادفِ الجاد .
للحظاتٍ رفضْتُ أن أصدقَ ، ظننتُ أنكَ تلاعبُ الموتَ تهزأُ به ، ظننتُ أنكَ ستتمردُ عليه طمعاً بنظرةٍ منك ، بابتسامَتِكَ الساحرةِ ، بعناقٍ لا ينتهي .
لكنَّها الحياةُ ، وأنتَ أنتَ من أبناءِ الحياةِ ورجالاتِ الحياة ، وأبناءُ الحياةِ لا ينتهون بمأتم ، ها أنت حاضرٌ معنا وبيننا ، سيرةً ونضالاً وكفاحاً لا ينتهي بموتِكَ ، تتحدى ضَعفَنا ، ترفضُ انكسارَنا ، تُربِّتُ على أكتافِنا ، تسألُنا ثباتُنا ، تستصرُخُنا البقاءَ على تعاليمِكَ الثورية ، وها نحنُ نحن عائلتكَ الصغيرةَ والكبيرةَ نؤكدُ لك بعزيمةِ الواثقِ بإيمانِ الثائر ، سنبقى بالوفاءِ الذي علَّمتَنا إيّاهُ ، وبالقدوةِ التي ربَّيتنا عليها ، وبالأخلاقِ التي جَبَلْتَنا عليها منذُ طفولَتِنا ، سنبقى نحملُ أفكاركَ الوقادةَ ، ونسيرُ على دربكَ ونهجِكَ ، وننهلُ من سيرتِكَ العطرة ، أنتَ من أحنيتَ ظهرَكَ لتستقيمَ ظُهورُنا ، عهداً ووعداً أن نبقى كما علَّمتَنا ، كما أرَدتْنا ، كما رَبَّيتَنا ، أوفياءَ للنهضة ، أوفياءَ للعقيدة ، أوفياءَ للثوابت ، أوفياء لإسمِكَ وسيرتِكَ ومسيرَتِك .
يا أمين سامي
ها هم رفقاؤكَ وأصدقاؤكَ ، يأتونَ اليك، يحبِسونَ في القلبِ شوقاً ، وفي العينِ دمعاً ،
جاؤوا مُكرِمين لنسرِ فلسطينَ وعاشِقها ، والذي لم يبخلْ في الدفاعِ عن حِياضِها ، ففلسطينُ سَكنَت في دمِكَ ، وحمَلَتَها في حلِّك وترِحالِك ، ولم يفارقْكَ حلمُ العودةِ اليها يوما ، والارتماءِ في أحضانِ ليمونِها وزيتونِها .
لكنَّ القدرَ كان أقوى من حُلمِكَ حينما أماتكَ قبلَ أن تُكحَّلَ عينيكَ برؤيةِ فلسطينَ مرةً اخرى مَزهوةً في عرسِ تحريرِها .
يا أبي
مَن قال ، إننا نموتُ بموتِ أجسادِنا ؟ ألم يقلْ زعيمُنا انطون سعاده ( قد تسقطُ أجسادُنا أمّا نفوسُنا فقد فرضَت حقيقتَها على هذا الوجود ') .
وحدُهُم، أولئك الذين يحدّونَ اهتماماتِهم في الحياة ، بحدودِ أجسادِهِم يموتونَ بموتِ أجسادِهِم ، أما أنتَ ، فقد خرجْتَ من جسدِكَ يومَ آمنتَ بقضيةِ أمَّتِكَ .
أما أنتَ ، وقد أكلَ النضالُ ومن أجلِ هذه القضيةِ جسدُكَ ،
أما أنتَ وقد قضيتَ العمرَ وأَفنَيْتَهُ مناضلاً باليدِ والفكر .
أما وأنتَ من رجالاتِ هذا الحزب فستبقى حياً بسيرَتِكَ وبمسيرتِكَ وبافكارِ حزبِكَ العظيم .
أبي، رفيقي، قدوتي، مدرسةُ حياتي ووهَجي الذي لا يخبو .
أنت الذي أتعبتَ الزمنَ وما تَعِبْت ، غالبتَ التنّينَ وما غُلبْت ، عرفتَ السجونَ والمنافي ، امتحنتْكَ الشدائدُ بقسوة ، فما لانت عزيمتُكَ ، ولا اهتزّ إيمانُك .
انتميتَ إلى حزبٍ، كان يومَها محظوراً ، حزبٌ يخاطرُ بالأجسادِ من أجلِ حريةِ الإنسان ، فوقفتَ ضد الاحتلالِ وحاربْتَهَ غيرَ آبهٍ بسجنٍ واعتقالٍ وتشرُّد .
حزبٌ يخاطرُ من أجلِ التغيير ، فوقفتَ ضدَّ الطائفيةِ بكلِّ مفاعيلِها الاجتماعيةِ والتربويةِ والسياسيةِ والنفسيةِ ، فطرَدْتَها من محيطِكَ وبيتكَ وعائلِتكَ ، بقناعةِ المؤمنينَ لا ارتدادَ عنها .
كنتَ ناصعاً عقيدةً وسلوكاً... وكم كان صعباً ذلك، وكم هو صعبٌ دائماً !
من فلسطينَ ـ سوريةَ الجنوبيةَ المعطاءةَ بينابيعِها وسهولِها وجبالِها ، من فلسطينَ المعطاءةَ برجالِها وشهدائِها ، من فلسطينَ التي ستتحرُرُ بإرادةِ أبنائِها الذينَ لم يخطئوا البوصلةَ يوماً ، ومن الاردنِ الحبيبِ ومن ارضِها أرضِ الخيرِ والعطاءِ انطَلَقْت إلى ساحات الأمة الواسعة . ابتَكَرْت من الوسائل ما لا يُحصى ولا يُعد ، لعلكَ تصلُ مبتغاكَ في وحدةِ هذهِ الامةِ وتحريرِ فلسطينَ .
نتذكرُكَ مناضلاً دؤوباً ، نتذكرُكَ تنتقل ناشراً إيمانكَ ، تتذكرُكَ أجيالٌ القوميين الروادِ الأوائل ، تربّت على وعدْ الانتصار ، فآمنتَ وعملتَ وضحَّيتَ وما بدّلتَ تبديلا
فأمَتُكَ ما زالت في عزّ السؤال: ما الذي جلبَ على شعبي هذا الويل؟ وشعبَكَ مازال يتساءلُ: من نحن ولما يحدثُ كل هذا لهذهِ الأمة ؟ وجوابُكَ الدائمُ 'القضيةُ القوميةُ ما زالت تتطلَّبُ المزيدَ من الشهادة ، وتطالبُنا بالوديعةِ... وها نحن نردُّها إليها عبرَكَ وسنردُها كلَّ ما تتطلبَ ذلكَ من دمنا .
يا أمين سامي،
أيها الجليلُ، يا ابنَ الشام، يا ابنَ لبنان ، يا ابنَ الأردن ، يا ابنَ العراق ، ويا ابنَ فلسطينَ ، أيها السوريُ القوميُ الاجتماعيُ ، ماذا أقولُ فيكَ اليومَ ، وأيُّ كلامٍ يستطيعُ الإحاطةَ بتاريخِكَ المشرفُ ، ستة وثمانون عاماً ، احتملت فيها شتى ضروب القهر والفقر والتشرد ، وما ضعفْتَ يوماً ، ولا لانتْ لكَ قناةٌ أو عزيمةٌ ولا تأففتَ لحظةً ، ولا اعتكفتَ بيتَكَ يوماً ولا تراجعْتَ أو حتى تلككَتَ برهةً من زمن .
على امتدادِ تاريخِكَ بقيتَ إذاعةَ الحزبِ ، يتحلَّقُ حولكَ المواطنونَ في البيوت ، كما في الساحاتِ العامة ، تعلمُهُم مبادئَ الحزبِ ، ونظامهَ ، ومناقبهَ ، وتاريخهَ ، ولو كان للمسافاتِ أن تنطقَ اليومَ ، لقالت أنكَ فارسُها ومروّضُها بامتياز ، تزرعُ في كل يباسٍ نباتاً ، وفوقَ كلِّ صخرةٍ دحنوناً .
ولن أنسى يا أبا طارق .
هذا الفرحُ الغنيُ ، الذي كان يفترشُ صدركَ ، ويغلِّفُ ألوانَه على حديثِك ، وعلى نظرتِكَ إلى الأمور ، وعلى علاقاتِكَ برفقائِكَ وبني وطنِك ، إنهُ فرحٌ الإيمانِ بالقضيةِ ، وفرحُ الالتزامِ بها ، ما رأيتُكَ يوماً في تشاؤمٍ ، ما رأيتُكَ يوماً إلا والبسمةُ فوق شفتيكَ تبعثُ الأملَ والتفاؤلَ فينا .
رفيقي :
راهنتَ على حزبك ، الحزبَ السوريَ القوميَ الاجتماعيَ ، وأنت الذي ما انقطعتَ يوماً عن النضالِ في صفوفِه ، هذا الحزبُ هو الذي أعادَ صوغَكَ ، وصوغَنا جميعاً ، وهو الذي انتشلَنا من حُمّى الانتماءاتِ الطائفيةِ والعشائريةِ والكيانيةِ البغيضة ، هو الذي حملَ إليك وعيكَ القوميَّ الاجتماعيَّ ، ونظرتَكَ الجديدةَ والدائمةَ إلى الحياة ، وهو الذي أطلقَ فيكَ هذه الروحَ الوقَادةَ والعقليةَ الخلاقةَ ، عقليةَ الصراعِ من أجلِ عز الأمةِ وفلاحِها وانتصرتَ دوماً للخيرِ على الشر ، هذا الحزبُ الذي استشرفَ مخاطرَ المشروعَ اليهوديَ منذ بداياتهِ وانخرطَ في صراعِه ، هو هذا الحزبُ الذي يحملُ معولً البناءِ ويعقدُ شعبُنا رهانَهَ عليه ، سيَّما بعدَ كلِّ هذه الكوارثِ التي جلبتهَا الأفكارُ الفاسدةُ والأنظمةُ الباليةُ والبنى الاجتماعيةُ المتآكلةُ التي غَلَبَ عليها التعصبُ للابعادِ الاثنيةِ والطائفيةِ والإقليمية .
أيها المُكرِمون
باسم العائلةِ الكريمةِ عائلةِ خوري ، باسم الوالدةِ وباسمي وشقيقي زياد وشقيقاتي هتاف وهلا ، وباسمِ الحزبِ السوريِ القوميِ الاجتماعيِ نتقدمُ من جميعِ المشاركينَ في حفلِ التأبينِ هذا متحدثينَ وحضورَ بجزيلِ الشكر ِوالعرفانِ لوقوفِكُم إلى جانبِنا في هذا المصابِ الجللِ والأليم عسى أن لا يصيبَكُم مكروهٌ وأن ترتفعَ راياتُ النصرِ خفاقةً عاليةً على كلِّ بيادر ِأمَّتِنا .
أبا طارق
لن يكسرَنا موتُك، ولن يقتلعَ جذوةَ الصراعِ المتوقدةِ فينا ، وإن كانَ رحيلُكَ أدمى منا القلبَ والعينَ ، كيفَ لا وقد تعلَّمْنا أننا إذا كنّا جبناءَ أقصَتْنا النهضةُ عنها وإذا كنا أقوياءَ سارت بنا إلى النصرِ المحتم .
أبي
لقد أعطيتَ فأجزلتَ، وناضلتَ فأوفيتَ ، وأتُمنتَ فكنتَ جديراً بالأمانة ، وكنتَ وما زلتَ فخراً لرفقائِك الناهضين .
وستبقى لعطاءاتِك القوةَ لإنعاشِ الذكرى ، فمسيرتُكَ عاصيةٌ على النسيان ، هذا هو مآلُ المؤمنينَ بالتاريخِ تاريخِ الأممِ والاوطانِ ، ومن كانَ كذلكَ لا يُختَصرُ بتكريمٍ.
طارق سامي خوري
عمان جو-برلمان
ما كنتُ أحسبُني قادراً على أنْ أقفَ في يومِ تأبينِكَ ، راثياً وشاهداً ، لكنَّها الحياةُ ، وإن كنتُ بلغتُ من العمر ِ عِتِياًّ ، فوداعُكَ مرٌّ ، إنه يُشعِرُني بأنَّ شيئاً بداخلي قد انكسر ، أتراهُ حسرةً على هذا الفيءِ الذي ظَلَلْتَنا به طَوالَ سِنِّي حَياتِكَ الوارفةِ وافتَقَدْناهُ ؟
كنّا نأتي إليكَ كلّما اكفَهرَّت سماؤنا، وكلَّما اشتدَّ قيظُ الهاجرةِ علينا ، أتراهُ حسرةً على تاريخِكِ المشبَّعِ بالإيمانِ بقضيةِ الأمةِ السوريةِ وبحزبِها رمزِ العطاءِ والصبرِ والتضحيةِ والفداء .
يا أمين سامي ،
من أينَ للموتِ أن يطويَ هذا التاريخ؟
فالسنديانةُ لا تنتهي بعدَ موتِها، غيابُها تذكيرٌ دائمٌ بِحضورِها ، فمنْ يملأُ فراغِك؟
وإنْ استطاعت قوةُ زمهريرِ الشتاءِ على اقتلاعِ شتلاتِ الوردِ والريحان ، فإنَّ بذورَها الممتدةُ عميقاً في الأرض ، لا تقوى عليها الرياحُ العاتية ، فتعودُ إلى الحياةِ من جديد ، وأنتَ بما زرعتَ من بذورٍ فينا ، نحنُ عائلتُكَ ، نحنُ رفقاؤُكَ ، بذورُ الإيمانِ والثباتِ والنضالِ تُبقيكَ حيّاً فينا وفي هذا الحزبِ العظيم .
أبي
ما الحياةُ، وما التاريخُ ، بلا رجالٍ يقهرونَ الموتَ بالحياةِ كما أنت ، بفيءِ عقولهِم المبدعةِ الخلاّقَةِ أمثالُكَ ، وعطاءِ سواعدِهِم الفتيَّةِ وبذلِ دمائِهم الزكيّةِ فداءَ الوطنِ والأمة ؟
أُؤكدُ لك أبي أيها الرفيقُ الودودْ
أن لا ، وألفُ لا ... لن يستويَ أبناءُ الحياةِ وأبناءُ الظلمةِ ، كما لن يستويَ الذين يَعلمونَ ويَعْملون والذين لا يَعلمون ، وإنْ عَلِموا فلا يَعملون .
سامي خوري أيها الرفاقُ والأصدقاءُ
سنديانةٌ ما شابَها يوماً يَباسٌ ، مروِيَّةٌ بالماءِ الذي جعلَ منه أللهُ كلَّ شيءٍ حي ، سنديانةٌ فَرَشَت ظِلَّها الوارفَ فوقَ رؤوسِنا ورؤوسِ أبناءِ شعبِنا وفي عزِّ الهاجرةِ ، تَعلَّمْتَ فَعَلِمْتَ وعَمِلتَ ، فاستوتْ منارةٌ لا يُطفِؤُها موتٌ ، ولا يقوى عليها زوالْ.
حاورناك كثيراً ، سمعناك كثيراً ، أتعبناكَ بأسئِلَتِنا ، عايشناكَ أباً حنوناً وجداًّ عطوفاً ، وعايشانكَ وعايشوك رفيقاً وأميناً وفدائياً قومياً، وكنتَ لنا ولهم القدوةَ في النضالِ والكفاحِ والتضحيةِ والفداءِ ، والقدوةَ في الإصغاءِ والاستماعِ والحوارِ الهادفِ الجاد .
للحظاتٍ رفضْتُ أن أصدقَ ، ظننتُ أنكَ تلاعبُ الموتَ تهزأُ به ، ظننتُ أنكَ ستتمردُ عليه طمعاً بنظرةٍ منك ، بابتسامَتِكَ الساحرةِ ، بعناقٍ لا ينتهي .
لكنَّها الحياةُ ، وأنتَ أنتَ من أبناءِ الحياةِ ورجالاتِ الحياة ، وأبناءُ الحياةِ لا ينتهون بمأتم ، ها أنت حاضرٌ معنا وبيننا ، سيرةً ونضالاً وكفاحاً لا ينتهي بموتِكَ ، تتحدى ضَعفَنا ، ترفضُ انكسارَنا ، تُربِّتُ على أكتافِنا ، تسألُنا ثباتُنا ، تستصرُخُنا البقاءَ على تعاليمِكَ الثورية ، وها نحنُ نحن عائلتكَ الصغيرةَ والكبيرةَ نؤكدُ لك بعزيمةِ الواثقِ بإيمانِ الثائر ، سنبقى بالوفاءِ الذي علَّمتَنا إيّاهُ ، وبالقدوةِ التي ربَّيتنا عليها ، وبالأخلاقِ التي جَبَلْتَنا عليها منذُ طفولَتِنا ، سنبقى نحملُ أفكاركَ الوقادةَ ، ونسيرُ على دربكَ ونهجِكَ ، وننهلُ من سيرتِكَ العطرة ، أنتَ من أحنيتَ ظهرَكَ لتستقيمَ ظُهورُنا ، عهداً ووعداً أن نبقى كما علَّمتَنا ، كما أرَدتْنا ، كما رَبَّيتَنا ، أوفياءَ للنهضة ، أوفياءَ للعقيدة ، أوفياءَ للثوابت ، أوفياء لإسمِكَ وسيرتِكَ ومسيرَتِك .
يا أمين سامي
ها هم رفقاؤكَ وأصدقاؤكَ ، يأتونَ اليك، يحبِسونَ في القلبِ شوقاً ، وفي العينِ دمعاً ،
جاؤوا مُكرِمين لنسرِ فلسطينَ وعاشِقها ، والذي لم يبخلْ في الدفاعِ عن حِياضِها ، ففلسطينُ سَكنَت في دمِكَ ، وحمَلَتَها في حلِّك وترِحالِك ، ولم يفارقْكَ حلمُ العودةِ اليها يوما ، والارتماءِ في أحضانِ ليمونِها وزيتونِها .
لكنَّ القدرَ كان أقوى من حُلمِكَ حينما أماتكَ قبلَ أن تُكحَّلَ عينيكَ برؤيةِ فلسطينَ مرةً اخرى مَزهوةً في عرسِ تحريرِها .
يا أبي
مَن قال ، إننا نموتُ بموتِ أجسادِنا ؟ ألم يقلْ زعيمُنا انطون سعاده ( قد تسقطُ أجسادُنا أمّا نفوسُنا فقد فرضَت حقيقتَها على هذا الوجود ') .
وحدُهُم، أولئك الذين يحدّونَ اهتماماتِهم في الحياة ، بحدودِ أجسادِهِم يموتونَ بموتِ أجسادِهِم ، أما أنتَ ، فقد خرجْتَ من جسدِكَ يومَ آمنتَ بقضيةِ أمَّتِكَ .
أما أنتَ ، وقد أكلَ النضالُ ومن أجلِ هذه القضيةِ جسدُكَ ،
أما أنتَ وقد قضيتَ العمرَ وأَفنَيْتَهُ مناضلاً باليدِ والفكر .
أما وأنتَ من رجالاتِ هذا الحزب فستبقى حياً بسيرَتِكَ وبمسيرتِكَ وبافكارِ حزبِكَ العظيم .
أبي، رفيقي، قدوتي، مدرسةُ حياتي ووهَجي الذي لا يخبو .
أنت الذي أتعبتَ الزمنَ وما تَعِبْت ، غالبتَ التنّينَ وما غُلبْت ، عرفتَ السجونَ والمنافي ، امتحنتْكَ الشدائدُ بقسوة ، فما لانت عزيمتُكَ ، ولا اهتزّ إيمانُك .
انتميتَ إلى حزبٍ، كان يومَها محظوراً ، حزبٌ يخاطرُ بالأجسادِ من أجلِ حريةِ الإنسان ، فوقفتَ ضد الاحتلالِ وحاربْتَهَ غيرَ آبهٍ بسجنٍ واعتقالٍ وتشرُّد .
حزبٌ يخاطرُ من أجلِ التغيير ، فوقفتَ ضدَّ الطائفيةِ بكلِّ مفاعيلِها الاجتماعيةِ والتربويةِ والسياسيةِ والنفسيةِ ، فطرَدْتَها من محيطِكَ وبيتكَ وعائلِتكَ ، بقناعةِ المؤمنينَ لا ارتدادَ عنها .
كنتَ ناصعاً عقيدةً وسلوكاً... وكم كان صعباً ذلك، وكم هو صعبٌ دائماً !
من فلسطينَ ـ سوريةَ الجنوبيةَ المعطاءةَ بينابيعِها وسهولِها وجبالِها ، من فلسطينَ المعطاءةَ برجالِها وشهدائِها ، من فلسطينَ التي ستتحرُرُ بإرادةِ أبنائِها الذينَ لم يخطئوا البوصلةَ يوماً ، ومن الاردنِ الحبيبِ ومن ارضِها أرضِ الخيرِ والعطاءِ انطَلَقْت إلى ساحات الأمة الواسعة . ابتَكَرْت من الوسائل ما لا يُحصى ولا يُعد ، لعلكَ تصلُ مبتغاكَ في وحدةِ هذهِ الامةِ وتحريرِ فلسطينَ .
نتذكرُكَ مناضلاً دؤوباً ، نتذكرُكَ تنتقل ناشراً إيمانكَ ، تتذكرُكَ أجيالٌ القوميين الروادِ الأوائل ، تربّت على وعدْ الانتصار ، فآمنتَ وعملتَ وضحَّيتَ وما بدّلتَ تبديلا
فأمَتُكَ ما زالت في عزّ السؤال: ما الذي جلبَ على شعبي هذا الويل؟ وشعبَكَ مازال يتساءلُ: من نحن ولما يحدثُ كل هذا لهذهِ الأمة ؟ وجوابُكَ الدائمُ 'القضيةُ القوميةُ ما زالت تتطلَّبُ المزيدَ من الشهادة ، وتطالبُنا بالوديعةِ... وها نحن نردُّها إليها عبرَكَ وسنردُها كلَّ ما تتطلبَ ذلكَ من دمنا .
يا أمين سامي،
أيها الجليلُ، يا ابنَ الشام، يا ابنَ لبنان ، يا ابنَ الأردن ، يا ابنَ العراق ، ويا ابنَ فلسطينَ ، أيها السوريُ القوميُ الاجتماعيُ ، ماذا أقولُ فيكَ اليومَ ، وأيُّ كلامٍ يستطيعُ الإحاطةَ بتاريخِكَ المشرفُ ، ستة وثمانون عاماً ، احتملت فيها شتى ضروب القهر والفقر والتشرد ، وما ضعفْتَ يوماً ، ولا لانتْ لكَ قناةٌ أو عزيمةٌ ولا تأففتَ لحظةً ، ولا اعتكفتَ بيتَكَ يوماً ولا تراجعْتَ أو حتى تلككَتَ برهةً من زمن .
على امتدادِ تاريخِكَ بقيتَ إذاعةَ الحزبِ ، يتحلَّقُ حولكَ المواطنونَ في البيوت ، كما في الساحاتِ العامة ، تعلمُهُم مبادئَ الحزبِ ، ونظامهَ ، ومناقبهَ ، وتاريخهَ ، ولو كان للمسافاتِ أن تنطقَ اليومَ ، لقالت أنكَ فارسُها ومروّضُها بامتياز ، تزرعُ في كل يباسٍ نباتاً ، وفوقَ كلِّ صخرةٍ دحنوناً .
ولن أنسى يا أبا طارق .
هذا الفرحُ الغنيُ ، الذي كان يفترشُ صدركَ ، ويغلِّفُ ألوانَه على حديثِك ، وعلى نظرتِكَ إلى الأمور ، وعلى علاقاتِكَ برفقائِكَ وبني وطنِك ، إنهُ فرحٌ الإيمانِ بالقضيةِ ، وفرحُ الالتزامِ بها ، ما رأيتُكَ يوماً في تشاؤمٍ ، ما رأيتُكَ يوماً إلا والبسمةُ فوق شفتيكَ تبعثُ الأملَ والتفاؤلَ فينا .
رفيقي :
راهنتَ على حزبك ، الحزبَ السوريَ القوميَ الاجتماعيَ ، وأنت الذي ما انقطعتَ يوماً عن النضالِ في صفوفِه ، هذا الحزبُ هو الذي أعادَ صوغَكَ ، وصوغَنا جميعاً ، وهو الذي انتشلَنا من حُمّى الانتماءاتِ الطائفيةِ والعشائريةِ والكيانيةِ البغيضة ، هو الذي حملَ إليك وعيكَ القوميَّ الاجتماعيَّ ، ونظرتَكَ الجديدةَ والدائمةَ إلى الحياة ، وهو الذي أطلقَ فيكَ هذه الروحَ الوقَادةَ والعقليةَ الخلاقةَ ، عقليةَ الصراعِ من أجلِ عز الأمةِ وفلاحِها وانتصرتَ دوماً للخيرِ على الشر ، هذا الحزبُ الذي استشرفَ مخاطرَ المشروعَ اليهوديَ منذ بداياتهِ وانخرطَ في صراعِه ، هو هذا الحزبُ الذي يحملُ معولً البناءِ ويعقدُ شعبُنا رهانَهَ عليه ، سيَّما بعدَ كلِّ هذه الكوارثِ التي جلبتهَا الأفكارُ الفاسدةُ والأنظمةُ الباليةُ والبنى الاجتماعيةُ المتآكلةُ التي غَلَبَ عليها التعصبُ للابعادِ الاثنيةِ والطائفيةِ والإقليمية .
أيها المُكرِمون
باسم العائلةِ الكريمةِ عائلةِ خوري ، باسم الوالدةِ وباسمي وشقيقي زياد وشقيقاتي هتاف وهلا ، وباسمِ الحزبِ السوريِ القوميِ الاجتماعيِ نتقدمُ من جميعِ المشاركينَ في حفلِ التأبينِ هذا متحدثينَ وحضورَ بجزيلِ الشكر ِوالعرفانِ لوقوفِكُم إلى جانبِنا في هذا المصابِ الجللِ والأليم عسى أن لا يصيبَكُم مكروهٌ وأن ترتفعَ راياتُ النصرِ خفاقةً عاليةً على كلِّ بيادر ِأمَّتِنا .
أبا طارق
لن يكسرَنا موتُك، ولن يقتلعَ جذوةَ الصراعِ المتوقدةِ فينا ، وإن كانَ رحيلُكَ أدمى منا القلبَ والعينَ ، كيفَ لا وقد تعلَّمْنا أننا إذا كنّا جبناءَ أقصَتْنا النهضةُ عنها وإذا كنا أقوياءَ سارت بنا إلى النصرِ المحتم .
أبي
لقد أعطيتَ فأجزلتَ، وناضلتَ فأوفيتَ ، وأتُمنتَ فكنتَ جديراً بالأمانة ، وكنتَ وما زلتَ فخراً لرفقائِك الناهضين .
وستبقى لعطاءاتِك القوةَ لإنعاشِ الذكرى ، فمسيرتُكَ عاصيةٌ على النسيان ، هذا هو مآلُ المؤمنينَ بالتاريخِ تاريخِ الأممِ والاوطانِ ، ومن كانَ كذلكَ لا يُختَصرُ بتكريمٍ.
طارق سامي خوري
عمان جو-برلمان
ما كنتُ أحسبُني قادراً على أنْ أقفَ في يومِ تأبينِكَ ، راثياً وشاهداً ، لكنَّها الحياةُ ، وإن كنتُ بلغتُ من العمر ِ عِتِياًّ ، فوداعُكَ مرٌّ ، إنه يُشعِرُني بأنَّ شيئاً بداخلي قد انكسر ، أتراهُ حسرةً على هذا الفيءِ الذي ظَلَلْتَنا به طَوالَ سِنِّي حَياتِكَ الوارفةِ وافتَقَدْناهُ ؟
كنّا نأتي إليكَ كلّما اكفَهرَّت سماؤنا، وكلَّما اشتدَّ قيظُ الهاجرةِ علينا ، أتراهُ حسرةً على تاريخِكِ المشبَّعِ بالإيمانِ بقضيةِ الأمةِ السوريةِ وبحزبِها رمزِ العطاءِ والصبرِ والتضحيةِ والفداء .
يا أمين سامي ،
من أينَ للموتِ أن يطويَ هذا التاريخ؟
فالسنديانةُ لا تنتهي بعدَ موتِها، غيابُها تذكيرٌ دائمٌ بِحضورِها ، فمنْ يملأُ فراغِك؟
وإنْ استطاعت قوةُ زمهريرِ الشتاءِ على اقتلاعِ شتلاتِ الوردِ والريحان ، فإنَّ بذورَها الممتدةُ عميقاً في الأرض ، لا تقوى عليها الرياحُ العاتية ، فتعودُ إلى الحياةِ من جديد ، وأنتَ بما زرعتَ من بذورٍ فينا ، نحنُ عائلتُكَ ، نحنُ رفقاؤُكَ ، بذورُ الإيمانِ والثباتِ والنضالِ تُبقيكَ حيّاً فينا وفي هذا الحزبِ العظيم .
أبي
ما الحياةُ، وما التاريخُ ، بلا رجالٍ يقهرونَ الموتَ بالحياةِ كما أنت ، بفيءِ عقولهِم المبدعةِ الخلاّقَةِ أمثالُكَ ، وعطاءِ سواعدِهِم الفتيَّةِ وبذلِ دمائِهم الزكيّةِ فداءَ الوطنِ والأمة ؟
أُؤكدُ لك أبي أيها الرفيقُ الودودْ
أن لا ، وألفُ لا ... لن يستويَ أبناءُ الحياةِ وأبناءُ الظلمةِ ، كما لن يستويَ الذين يَعلمونَ ويَعْملون والذين لا يَعلمون ، وإنْ عَلِموا فلا يَعملون .
سامي خوري أيها الرفاقُ والأصدقاءُ
سنديانةٌ ما شابَها يوماً يَباسٌ ، مروِيَّةٌ بالماءِ الذي جعلَ منه أللهُ كلَّ شيءٍ حي ، سنديانةٌ فَرَشَت ظِلَّها الوارفَ فوقَ رؤوسِنا ورؤوسِ أبناءِ شعبِنا وفي عزِّ الهاجرةِ ، تَعلَّمْتَ فَعَلِمْتَ وعَمِلتَ ، فاستوتْ منارةٌ لا يُطفِؤُها موتٌ ، ولا يقوى عليها زوالْ.
حاورناك كثيراً ، سمعناك كثيراً ، أتعبناكَ بأسئِلَتِنا ، عايشناكَ أباً حنوناً وجداًّ عطوفاً ، وعايشانكَ وعايشوك رفيقاً وأميناً وفدائياً قومياً، وكنتَ لنا ولهم القدوةَ في النضالِ والكفاحِ والتضحيةِ والفداءِ ، والقدوةَ في الإصغاءِ والاستماعِ والحوارِ الهادفِ الجاد .
للحظاتٍ رفضْتُ أن أصدقَ ، ظننتُ أنكَ تلاعبُ الموتَ تهزأُ به ، ظننتُ أنكَ ستتمردُ عليه طمعاً بنظرةٍ منك ، بابتسامَتِكَ الساحرةِ ، بعناقٍ لا ينتهي .
لكنَّها الحياةُ ، وأنتَ أنتَ من أبناءِ الحياةِ ورجالاتِ الحياة ، وأبناءُ الحياةِ لا ينتهون بمأتم ، ها أنت حاضرٌ معنا وبيننا ، سيرةً ونضالاً وكفاحاً لا ينتهي بموتِكَ ، تتحدى ضَعفَنا ، ترفضُ انكسارَنا ، تُربِّتُ على أكتافِنا ، تسألُنا ثباتُنا ، تستصرُخُنا البقاءَ على تعاليمِكَ الثورية ، وها نحنُ نحن عائلتكَ الصغيرةَ والكبيرةَ نؤكدُ لك بعزيمةِ الواثقِ بإيمانِ الثائر ، سنبقى بالوفاءِ الذي علَّمتَنا إيّاهُ ، وبالقدوةِ التي ربَّيتنا عليها ، وبالأخلاقِ التي جَبَلْتَنا عليها منذُ طفولَتِنا ، سنبقى نحملُ أفكاركَ الوقادةَ ، ونسيرُ على دربكَ ونهجِكَ ، وننهلُ من سيرتِكَ العطرة ، أنتَ من أحنيتَ ظهرَكَ لتستقيمَ ظُهورُنا ، عهداً ووعداً أن نبقى كما علَّمتَنا ، كما أرَدتْنا ، كما رَبَّيتَنا ، أوفياءَ للنهضة ، أوفياءَ للعقيدة ، أوفياءَ للثوابت ، أوفياء لإسمِكَ وسيرتِكَ ومسيرَتِك .
يا أمين سامي
ها هم رفقاؤكَ وأصدقاؤكَ ، يأتونَ اليك، يحبِسونَ في القلبِ شوقاً ، وفي العينِ دمعاً ،
جاؤوا مُكرِمين لنسرِ فلسطينَ وعاشِقها ، والذي لم يبخلْ في الدفاعِ عن حِياضِها ، ففلسطينُ سَكنَت في دمِكَ ، وحمَلَتَها في حلِّك وترِحالِك ، ولم يفارقْكَ حلمُ العودةِ اليها يوما ، والارتماءِ في أحضانِ ليمونِها وزيتونِها .
لكنَّ القدرَ كان أقوى من حُلمِكَ حينما أماتكَ قبلَ أن تُكحَّلَ عينيكَ برؤيةِ فلسطينَ مرةً اخرى مَزهوةً في عرسِ تحريرِها .
يا أبي
مَن قال ، إننا نموتُ بموتِ أجسادِنا ؟ ألم يقلْ زعيمُنا انطون سعاده ( قد تسقطُ أجسادُنا أمّا نفوسُنا فقد فرضَت حقيقتَها على هذا الوجود ') .
وحدُهُم، أولئك الذين يحدّونَ اهتماماتِهم في الحياة ، بحدودِ أجسادِهِم يموتونَ بموتِ أجسادِهِم ، أما أنتَ ، فقد خرجْتَ من جسدِكَ يومَ آمنتَ بقضيةِ أمَّتِكَ .
أما أنتَ ، وقد أكلَ النضالُ ومن أجلِ هذه القضيةِ جسدُكَ ،
أما أنتَ وقد قضيتَ العمرَ وأَفنَيْتَهُ مناضلاً باليدِ والفكر .
أما وأنتَ من رجالاتِ هذا الحزب فستبقى حياً بسيرَتِكَ وبمسيرتِكَ وبافكارِ حزبِكَ العظيم .
أبي، رفيقي، قدوتي، مدرسةُ حياتي ووهَجي الذي لا يخبو .
أنت الذي أتعبتَ الزمنَ وما تَعِبْت ، غالبتَ التنّينَ وما غُلبْت ، عرفتَ السجونَ والمنافي ، امتحنتْكَ الشدائدُ بقسوة ، فما لانت عزيمتُكَ ، ولا اهتزّ إيمانُك .
انتميتَ إلى حزبٍ، كان يومَها محظوراً ، حزبٌ يخاطرُ بالأجسادِ من أجلِ حريةِ الإنسان ، فوقفتَ ضد الاحتلالِ وحاربْتَهَ غيرَ آبهٍ بسجنٍ واعتقالٍ وتشرُّد .
حزبٌ يخاطرُ من أجلِ التغيير ، فوقفتَ ضدَّ الطائفيةِ بكلِّ مفاعيلِها الاجتماعيةِ والتربويةِ والسياسيةِ والنفسيةِ ، فطرَدْتَها من محيطِكَ وبيتكَ وعائلِتكَ ، بقناعةِ المؤمنينَ لا ارتدادَ عنها .
كنتَ ناصعاً عقيدةً وسلوكاً... وكم كان صعباً ذلك، وكم هو صعبٌ دائماً !
من فلسطينَ ـ سوريةَ الجنوبيةَ المعطاءةَ بينابيعِها وسهولِها وجبالِها ، من فلسطينَ المعطاءةَ برجالِها وشهدائِها ، من فلسطينَ التي ستتحرُرُ بإرادةِ أبنائِها الذينَ لم يخطئوا البوصلةَ يوماً ، ومن الاردنِ الحبيبِ ومن ارضِها أرضِ الخيرِ والعطاءِ انطَلَقْت إلى ساحات الأمة الواسعة . ابتَكَرْت من الوسائل ما لا يُحصى ولا يُعد ، لعلكَ تصلُ مبتغاكَ في وحدةِ هذهِ الامةِ وتحريرِ فلسطينَ .
نتذكرُكَ مناضلاً دؤوباً ، نتذكرُكَ تنتقل ناشراً إيمانكَ ، تتذكرُكَ أجيالٌ القوميين الروادِ الأوائل ، تربّت على وعدْ الانتصار ، فآمنتَ وعملتَ وضحَّيتَ وما بدّلتَ تبديلا
فأمَتُكَ ما زالت في عزّ السؤال: ما الذي جلبَ على شعبي هذا الويل؟ وشعبَكَ مازال يتساءلُ: من نحن ولما يحدثُ كل هذا لهذهِ الأمة ؟ وجوابُكَ الدائمُ 'القضيةُ القوميةُ ما زالت تتطلَّبُ المزيدَ من الشهادة ، وتطالبُنا بالوديعةِ... وها نحن نردُّها إليها عبرَكَ وسنردُها كلَّ ما تتطلبَ ذلكَ من دمنا .
يا أمين سامي،
أيها الجليلُ، يا ابنَ الشام، يا ابنَ لبنان ، يا ابنَ الأردن ، يا ابنَ العراق ، ويا ابنَ فلسطينَ ، أيها السوريُ القوميُ الاجتماعيُ ، ماذا أقولُ فيكَ اليومَ ، وأيُّ كلامٍ يستطيعُ الإحاطةَ بتاريخِكَ المشرفُ ، ستة وثمانون عاماً ، احتملت فيها شتى ضروب القهر والفقر والتشرد ، وما ضعفْتَ يوماً ، ولا لانتْ لكَ قناةٌ أو عزيمةٌ ولا تأففتَ لحظةً ، ولا اعتكفتَ بيتَكَ يوماً ولا تراجعْتَ أو حتى تلككَتَ برهةً من زمن .
على امتدادِ تاريخِكَ بقيتَ إذاعةَ الحزبِ ، يتحلَّقُ حولكَ المواطنونَ في البيوت ، كما في الساحاتِ العامة ، تعلمُهُم مبادئَ الحزبِ ، ونظامهَ ، ومناقبهَ ، وتاريخهَ ، ولو كان للمسافاتِ أن تنطقَ اليومَ ، لقالت أنكَ فارسُها ومروّضُها بامتياز ، تزرعُ في كل يباسٍ نباتاً ، وفوقَ كلِّ صخرةٍ دحنوناً .
ولن أنسى يا أبا طارق .
هذا الفرحُ الغنيُ ، الذي كان يفترشُ صدركَ ، ويغلِّفُ ألوانَه على حديثِك ، وعلى نظرتِكَ إلى الأمور ، وعلى علاقاتِكَ برفقائِكَ وبني وطنِك ، إنهُ فرحٌ الإيمانِ بالقضيةِ ، وفرحُ الالتزامِ بها ، ما رأيتُكَ يوماً في تشاؤمٍ ، ما رأيتُكَ يوماً إلا والبسمةُ فوق شفتيكَ تبعثُ الأملَ والتفاؤلَ فينا .
رفيقي :
راهنتَ على حزبك ، الحزبَ السوريَ القوميَ الاجتماعيَ ، وأنت الذي ما انقطعتَ يوماً عن النضالِ في صفوفِه ، هذا الحزبُ هو الذي أعادَ صوغَكَ ، وصوغَنا جميعاً ، وهو الذي انتشلَنا من حُمّى الانتماءاتِ الطائفيةِ والعشائريةِ والكيانيةِ البغيضة ، هو الذي حملَ إليك وعيكَ القوميَّ الاجتماعيَّ ، ونظرتَكَ الجديدةَ والدائمةَ إلى الحياة ، وهو الذي أطلقَ فيكَ هذه الروحَ الوقَادةَ والعقليةَ الخلاقةَ ، عقليةَ الصراعِ من أجلِ عز الأمةِ وفلاحِها وانتصرتَ دوماً للخيرِ على الشر ، هذا الحزبُ الذي استشرفَ مخاطرَ المشروعَ اليهوديَ منذ بداياتهِ وانخرطَ في صراعِه ، هو هذا الحزبُ الذي يحملُ معولً البناءِ ويعقدُ شعبُنا رهانَهَ عليه ، سيَّما بعدَ كلِّ هذه الكوارثِ التي جلبتهَا الأفكارُ الفاسدةُ والأنظمةُ الباليةُ والبنى الاجتماعيةُ المتآكلةُ التي غَلَبَ عليها التعصبُ للابعادِ الاثنيةِ والطائفيةِ والإقليمية .
أيها المُكرِمون
باسم العائلةِ الكريمةِ عائلةِ خوري ، باسم الوالدةِ وباسمي وشقيقي زياد وشقيقاتي هتاف وهلا ، وباسمِ الحزبِ السوريِ القوميِ الاجتماعيِ نتقدمُ من جميعِ المشاركينَ في حفلِ التأبينِ هذا متحدثينَ وحضورَ بجزيلِ الشكر ِوالعرفانِ لوقوفِكُم إلى جانبِنا في هذا المصابِ الجللِ والأليم عسى أن لا يصيبَكُم مكروهٌ وأن ترتفعَ راياتُ النصرِ خفاقةً عاليةً على كلِّ بيادر ِأمَّتِنا .
أبا طارق
لن يكسرَنا موتُك، ولن يقتلعَ جذوةَ الصراعِ المتوقدةِ فينا ، وإن كانَ رحيلُكَ أدمى منا القلبَ والعينَ ، كيفَ لا وقد تعلَّمْنا أننا إذا كنّا جبناءَ أقصَتْنا النهضةُ عنها وإذا كنا أقوياءَ سارت بنا إلى النصرِ المحتم .
أبي
لقد أعطيتَ فأجزلتَ، وناضلتَ فأوفيتَ ، وأتُمنتَ فكنتَ جديراً بالأمانة ، وكنتَ وما زلتَ فخراً لرفقائِك الناهضين .
وستبقى لعطاءاتِك القوةَ لإنعاشِ الذكرى ، فمسيرتُكَ عاصيةٌ على النسيان ، هذا هو مآلُ المؤمنينَ بالتاريخِ تاريخِ الأممِ والاوطانِ ، ومن كانَ كذلكَ لا يُختَصرُ بتكريمٍ.
طارق سامي خوري
التعليقات